«القول» و«غير القابل للقول» فى لغة الإعلام والسياسة - أكرم السيسى - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 3:49 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«القول» و«غير القابل للقول» فى لغة الإعلام والسياسة

نشر فى : الجمعة 10 نوفمبر 2023 - 7:45 م | آخر تحديث : الجمعة 10 نوفمبر 2023 - 7:45 م
تُعتبر اللغة أكبر إعجازا مَنَحه الله للإنسان دون المخلوقات الأخرى كافة، فهى نسق من الإشارات والرموز والأصوات.. تمثل أهم أداة من أدوات المعرفة والتعارف، فهى تعتبر أهم وسائل التفاهم والاحتكاك بين أفراد المجتمع فى جميع ميادين الحياة، كما ترتبط اللغة بالتفكير ارتباطًا وثيقًا؛ فأفكار الإنسان تصاغ دومًا فى قالب تعبيرات، حتى فى حال تفكيره الباطنى!.

وتأخذ التعبيرات التى لا تُقال (أى بدون استخدام الكلمات) أشكالًا مختلفة منها الصمت والنظرات والحركات والتردد والصورة والألوان...، وهذه تكون فى أحيان كثيرة أكثر تعبيرًا من الكلمات لأنها تعبر عمَّا لا يجرؤ الإنسان الإفصاح عنه أو الذى لا يستطيع وصفه، وذلك إما لحرج أو خوف أو لأن بعض المواقف لا تتناسب مع الدور الذى يحتله الشخص فى العائلة أو المجتمع، وهو ما يمكن أن نطلق عليه «الخَفِى عن إرَادة أو عمدًا»!

وفى علم «البراجماتية» ــ إحدى فروع علم اللغويات ــ ما يُسمى بـ«القول وغير القابل للقول»، بالفرنسية (Le dire et le nonــdit)، وبالإنجليزية (The said and the unsaid)؛ وهى ظاهرة موجودة أيضًا فى لغة القرآن، تُسمى بـ«الحذف» (Ellipse)، وتستخدم فى الإضمار والإخفاء كما فى الإيجاز، كقوله تعالى فى الحالات المسموح بها بالإفطار فى شهر رمضان: «(...) وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ» (البقرة: 183)، والمقصود بها «وعلى الذين لا يطيقونه..»؛ ففى لسان العرب «لا» تأتى زائدة، فتُحذف فى الموضع الذى يراد إثباتها فيه، أى على الذين لا يطيقون الصيام لعطش أو لضعف جسدى فدية إطعام مسكين عن كل يوم؛ ومن فوائد الحذف أنه يُبَسِّط التعبير ويُقويه، كما أنه يعمل على تسريع السَّرد لأنه يصمت عن ذكر بعض التفصيلات!

• • •

وعن اللغة وألاعيبها فى مجال الإعلام، فقد استمعت منذ أيام قليلة لبرنامج فرنسى كوميدى ــ ساخر موسوم بـ«Rien ne va +» (لا شىء يسير أكثر)، وموضوع الحلقة عن اللغة والمفردات والأدوات التى يستخدمها كلٌ من الفلسطينيين والإسرائيليين أثناء حربهما؛ بدأ الشاب مقدم البرنامج بوصفه لإسرائيل بأنها الدولة صاحبة الجيش ذات القوة الخارقة، والمدعومة من القوة العظمى الأولى فى العالم، تشن «حرب إبادة» ضد الفلسطينيّين فى غزة، وتقيم فيها المذابح والمجازر، وتضرب المدارس والمستشفيات والنساء والأطفال بالقنابل، وقال إن هذه الاعتداءات الوحشية تسميها إسرائيل «عمليات عسكرية للدفاع عن النفس»!.

استنكر مقدم البرنامج هذه التسمية، واعتبرها تضليلا إعلاميا، ولعب بالألفاظ، وللتدليل على صحة كلامه ذكر المثال التالى: كيف إذا قُتِل شخص فيقوم شقيق المقتول بقتل كل أخوة القاتل ووالديه وأطفاله وأصدقائه وجيرانه وحتى الخباز الذى كان يتعامل معه القاتل، وكذلك كل أفراد أسرة الخباز...، فهذا بالطبع ليس دفاعا عن النفس، ولكنه جريمة إبادة وانتقام بعيدة تمامًا عن المنطق وعن الإنسانية!

وعن «غير القابل للقول» الذى يمكن التعبير عنه بـ«الصمت»، فبعد أن استعرض مُقدم البرنامج كيفية التلاعب بالمفردات والتضليل باللغة، قام بتمثيل دور مذيع لنشرة أخبار، وتخيَّل استدعاء متحدثَين لنقاش موضوع «حرب الإبادة» فى غزة، وبعد أن ذكر عنوان الحوار، توجه للضيفَين ــ اللذين لم يظهرا على الشاشة لأن البرنامج أحادى الحوار (monologue) ــ وبشكل كوميدى وساخر، أعلن انتهاء الحوار دون أن نسمع كلمة واحدة من أحد، واعتذر لهما عن ضيق الوقت، وأنه اكتفى بما قالاه، وبما عبَّرا عنه من تفصيلات!

هذا المشهد «الكوميدى ــ الساخر» يجسد بكل وضوح حالة «الصمت» التى يجب علينا أن نستمع لها ونفسرها كما هو الحال عندما نقرأ ما هو بين السطور، وتفسير هذا الصمت أو بالأحرى الكلام «غير القابل للقول» ذهَب من نفى واستنكار وإدانة لإدعاء إسرائيل بأنها فى حالة دفاع عن النفس إلى التأكيد ــ كما سبق الإشارة ــ على عدوانها وجرائمها، والتصميم على إبادة الشعب الفلسطينى المُحتل، وما يدل على ذلك أنه ختم برنامجه بقوله: «كل هذه الجرائم تحدث منذ خمسة وسبعين عامًا»، هكذا يصدق المثل القائل: «إذا كان الكلام من فضة فالصمت من ذهب»!

هذا فيما يخص المفردات المستخدمة من الإعلام الإسرائيلى لتبرير ما تقوم به من مذابح ومجازر، وكيفية الاستماع إلى الصمت ومحاولة تفسيره، وأما عن لغة السياسة، فتوجد طرق ووسائل وألاعيب متنوعة للتعبير، سواء للتوضيح أو للتضليل أو لتزوير الحقائق، ولعل أشهرها «حَذف» أداة التعريف «The» من النص الإنجليزى للقرار 242 لمجلس الأمن عن إنسحاب القوات الإسرائيلية التى احتلتها إسرائيل فى 1967، فجاء تعبير الانسحاب «from territories occupied» أى (من «أراضٍ» عربية)، بينما تمت إضافة أداة التعريف «الـ» (الأراضى) فى النسخة العربية!

• • •

فى عالم السياسة، يُجيد السياسيون البارعون اللعب بالألفاظ، وطرق السرد فى محاولة لإقناع الآخرين، فهم يتنقلون بين «القول» وبين «غير القابل للقول» بالصمت أو بغيره.. بسهولة ويسر، فيتخطون بهذه المهارة العقبات التى يمكن أن تُحيل بينهم وبين المواجهة الصريحة، كما يمكن أن يتفادوا العُقوبات التى يمكن أن تقع عليهم فى حالة التصريح بما هو ممنوع الاقتراب منه، ولعل أكبر مثال على ذلك هو شعار الصهاينة الشهير «مُعاداة السامية» الذى يتهمون به كل من يحاول مواجهتم بالحقيقة، وأكبر دليل على ذلك، إدانة المفكر الفرنسى روجيه جارودى بالإساءة إلى اليهود ومعاداة السامية حيث إنه فى كتابه «الأساطير المؤسسة لدولة إسرائيل» شكك فى عدد اليهود الذين أُحرقوا فى الهولوكست فى عهد ألمانيا النازية، فتساءل هل الرقم ستة ملايين أم أربعة، وعليه صدر ضده حكم بالسجن لمدة سنة مع إيقاف التنفيذ فى 1998!

وفى حوار تليفزيونى للسياسى المُحنك دومينيك دو فيلبان Dominique de Villepin، رئيس الوزراء الأسبق الفرنسى، الذى يعلم تمامًا ألاعيب الصهونية العالمية ومخاطرها، وكذلك تابوهاتها، وأهمها «مُعاداة السامية»، استعمل أسلوبا يتبناه الآن كل السياسيين الغربيين الذين يدينون المذابح والمجازر التى تقع فى غزة، فمن أجل أن يسمح لنفسه بالقول «الصريح» لكل ما هو «غير قابل للقول»، أى دون أى مواربة، استخدم أكثر من مرة أثناء حواره ما يمكن أن نسميه «ديباجة» يكررها السياسيون الغربيون الآن حتى فقدت تأثيرها؛ هذه الديباجة تكون دائمًا فى مقدمة الحديث، وتحتوى على هجوم لاذع لحركة حماس، وأنها منظمة إرهابية لا بد من محاربتها، بل والقضاء عليها نهائيًا من جذورها، ويؤكدون فيها أيضًا على حق إسرائيل فى الحياة بسلام، هذه الديباجة تسمح للجميع بالتعبير الحُر عمّا فى جعبتهم دون تردد أو خوف من أحد!

فى حواره الفلسفى اللبق، استعرض دو فيلبان وجهة نظره فى ردة فعل أحداث 7 أكتوبر، فقال إن حماس استطاعت بهذا الهجوم أن تنصب للعالم كله، وخاصة الغربى، ثلاثة مآزق؛ الأول أنها أثبتت حالة الرعب فى المنطقة، وذلك نتيجة لأخطاء ارتكبتها إسرائيل، فقد اكتفت بعمل انقسامات بين الفصائل الفلسطينية، واعتقدت أنها بذلك ضمنت تصفية القضية الفلسطينية، إلا أن هذا أدى إلى صعود المتطرفين الفلسطينيين للحكم فى غزة، فحول الصراع من سياسى إلى دينى، وكشفت أيضًا عن أن الصهيونية العالمية التى بدأت كحركة سياسية «علمانية» تحولت مع اليمين المتطرف الذى حكم إسرائيل لسنيين طويلة من بن جوريون وحتى نتنياهو إلى نزاع توراتى (دينى)، وهذا أخطر ما تواجهه مشكلة الشرق الأوسط والعالم كله، لأن هذا التطرف الدينى يُنهى الأمل فى المفاوضات، ويحوله لجدال «جامد» لا يقبل التنازل من أى طرف، لأنه سيكون حوارًا عن «مقدسات»!.

المأزق الثانى، أن 7 أكتوبر كشف فكرنا الغربى «Occidentalisme»، أى أن نكون فى جانب إسرائيل ولا نرى سواها، وهذا ما لا يجب أن يحدث لأنه سيكون صراعًا بين الشرق والغرب؛ والمأزق الثالث: «أخلاقى» (Moralisme)، فقد فضح ازدواجية معايرنا: ندين روسيا فى احتلالها لأوكرانيا، ولا ندين إسرائيل فى عدوانها على الفلسطينيين!

وقد أقر «دو فيلبان» أن إسرائيل لم تنفذ أى قرار دولى منذ خمسة وسبعين عامًا، وهذا هو السبب الرئيسى فى وجود العنف والحروب على مدار هذه السنين، كما أكد على أن العرب والمسلمين فى كل بلدان العالم لن ينسوا «النكبة» (نطقها بالعربية) فى 1948، ولن ينسوا أن أراضيهم محتلة، فهذه ستظل فى العقل العربى المسلم «أم المعارك»!.

وعن سؤاله عن الحل، قال لا بد أن يفتح الأوروبيون أعيُنهم، وألا يغتالوا مستقبلهم بأيديهم، فلا سلام فى العالم كله إلا إذا وضِعَت القضية الفلسطينية على طاولة المفاوضات، وتم تنفيذ القرارات الأممية، وإخضاع العنف والحروب لنظرية «السبب والنتيجة»، أى لا بد وأن نعرف ما هى الأسباب التى أدت إلى هذه الحروب، فلا مخرج إلا بحل دبلوماسى، لأن الحروب لا ينتج عنها إلا حروب، وهكذا سيدخل الجميع فى دائرة العنف والحروب بلا نهاية، وكانت نصيحته الأخيرة أنه لا بد من مساعدة الإسرائيليين على فهم حقيقة الأوضاع، و«إجبارهم» إن لم نستطع إقناعهم بالحل السياسى!

وختم حديثه بالديباجة التى بدأ بها: «لا بد من استئصال حماس، والقضاء عليها من جذورها، وضرورة فصلها عن الشعب الفلسطينى، هكذا سمحت له هذه الديباجة، وكما سمحا «الصمت» «والتلاعب بالمفردات» لغيره بقول ما هو غير قابل للقول!.
أكرم السيسى أستاذ متفرغ بكلية اللغات والترجمة (قسم اللغة الفرنسية)– جامعة الأزهر
التعليقات