بين يدى الله سبحانه يرقد الآن أحد أعز زملاء العمر من أطباء معهد القلب القومى ونحن جميعا على أعتاب أبواب رحماته ندعو من عمق القلب أملا فى أن يرد الدعاء عنه قدرا محتوما سبقه إليه أحد عشر زميلا منا: طبيب وطبيبة وممرض وفنى وعامل ورجل أمن. كلهم تشاركوا فى أن كانوا ضحايا عدوى الفيروس الغادر.
يرقد زميل مهنتنا ورفيق عمرنا وشريك رسالتنا فى مستشفى قصر العينى موصولا بأجهزة للتنفس تدفع بعضا من الأمل فى رئتيه التى تلاشت همتها وفقدت مرونتها فتحولت لرئات من حديد.. ونحن جميعا لا نتوقف لحظة عن الدعاء يقينا بأن الدعاء يغير الأقدار المعلقة ويلقى على الإنسان ظلا من رضا الرب يحميه من غدر الأيام.
زميلنا العزيز صاحب الملامح التى غفل عنها الزمان فظلت له ملامح البراءة والنقاء فى ظل ابتسامة وديعة لا تفارقه: تنظر إليه فتظنه غير ملتفت إلى ما يجرى حوله من صغائر بينما المدرك لحقيقته يعلم جيدا أنه ليس بغافل إنما مدرك تماما لكل الوقائع والأحداث لكنه مترفع عنها زاهد فيها فلا شىء يشغله إلا عمله ولا يدور برأسه إلا ما ينفع الناس، داهمنى خبر إصابته بعدوى كوفيد ــ ١٩ بصورة قاسية لكن ما أصابنى بالفعل فى مقتل كان الخبر الأكثر قسوة: أن علينا أن نتكافل لنوفر الدعم المادى اللازم لعلاجه! حدث هذا كثيرا وسيحدث دائما فى معهد القلب القومى الذى أراه ظاهرة تسحتق أعلى مراتب التقدير، ولكن أن يحدث هذا بطبيب معروف استشارى متزوج من طبيبة زميلة نشيطة فى مجالات متعددة، فهذا والله ما لا يقبله عقل ولا ترضاه نفس سوية، لن أخوض فى أى تفاصيل فالأمر بالفعل مر موجع: إذا كان هذا حالنا نحن الأطباء فماذا عساه أن يقول الإنسان المصرى العادى الذى يحاول تسلق خط الفقر؟
الأطباء فئة من مواطنى هذا البلد يعانون ذات المشكلات لا تقيهم مهنتهم ــ التى ينظر إليها الجميع ربما فى حسد ــ شر العثرات التى تداهمهم نعم هناك شريحة مرفهة من الأطباء يبالغون فى أتعابهم ولا يعفون زملاءهم من قيمة الكشف المرتفعة والتى قد تتعدى قيمة مرتب طبيب شاب لكن كم تبلغ نسبتهم؟ الغالبية العظمى من الأطباء حتى من قارب منهم سن المعاش فى المستشفيات الحكومية لا يملكون مدخرات تصمد فى مواجهة يد الكوارث المرضية، وها نحن نواجه أمرا موجعا وحالة تستدعى أن نتوقف عندها فى لحظة فارقة، ونسأل أنفسنا: ماذا يجب أن نفعل؟ ومن هو المسئول عن حماية طبيب وصل إلى تلك المنزلة ولا يملك تكلفة علاجه؟
حتى لا أتهم بما لا أعتقد أو يظن بى أننى أهاجم لأكسب أرضا أعلن صراحة أننى أحترم دور النقابة، فالبرنامج الطبى الذى نتبناه يرفع عن كاهل الأطباء قدرا كبيرا من المعاناة لكنه فى الواقع غير كافٍ فى جميع الأحوال المرضية خاصة المعقدة منها والتى تتطلب استخدام تقنيات حديثة مستلزماتها باهظة التكاليف مثل جهاز الإيكو الذى هو صلة زميلنا العزيز الآن بالحياة أو عند استخدام القسطرة لاستبدال الصمام الأورطى والميترالى وغيرها.
أعلم أيضا أن هناك خطوات قد اتخذت بصدد تعميم نظام التأمين الصحى الشامل وهذا فى الواقع هو الأمل لذا فإعادة النظر فيه لسد الثغرات وتوفير مصادر التمويل فرض عين على الدولة.
الذى أعلمه أيضا أن تأمين الإنسان المصرى صحيا بالفعل يتكلف الملايين واتمني أن نوجه جزءا من الميزانية او من اي بنود اخري لبناء مؤسسات للرعاية الصحية ونظام للتأمين الصحى، أنا هنا لا أهاجم الحكومة او الدولة التى أنتمى إليها وأدين لها بكامل الولاء لكنى لا أرى أن هناك ما يمنعنى أن أستنجد بها الآن لتوفر لزميلى فرصة الرعاية الطبية الكاملة، فهل يلومنى أحد؟
قد يطوى الحديث فالأفكار بالفعل مثار حديث بيننا الأطباء لكن هل هناك من يدفعه حتى الفضول ليسمعنا؟ ولا أقول الواجب.
آخر ما أتمنى أن أسمع رأى الزملاء فيه اليوم: لماذا حتى الآن لم يفكر الأطباء فى إقامة وتأسيس مستشفى على مستوى عالٍ تضمن لهم حائط صد لهجمات المرض الشرسة يتطوع فيها الكبار للعمل بدون أجر فى جميع الأقسام والصغار بتسيير أمر النوبتجيات.
يتكفل المجتمع المدنى ببنائها وإعداد معاملها وحجرات عملياتها ورعاياتها الدقيقة وبلاشك نطمع فى مساهمة تحيا مصر.
لماذا الأطباء؟
لأنهم يا سادة هم من يطببونكم ويقدمون حياتهم فداء لكم جميعا بينما أطباء العالم يعالجون مرضاهم بالتليفون.
كان الله لك يا أخى وزميل مهنتى العزيز فى محنة مرضك.
يا رب.. رده لنا ردا جميلا.. اللهم لا اعتراض.