بعد مسيرة امتدت لنصف قرن من العطاء الغزير والإبداع المتدفق، جاء دور فارس الكلمة الحرة والفكر المستنير، الكاتب والسيناريست المرموق، وحيد حامد، كى يترجل، مخلفا وراءه تراثا مشرفا وثمينا من الإنتاج الأدبى الراقى والإرث الفنى الهادف.
ثمة نظريتان تعتلجان منذ زمن حول طبيعة الإبداع وتموقعه فى حياة البشر. ففى مطلع القرن التاسع عشر، آثر المبدعون الهروب من زمنهم القاسى والانغماس فى إنتاج أدب ترفى لا يكترث بالغايات الاجتماعية ولا يعبأ بالمبادئ والقيم الإنسانية، حتى انبلجت من رحم فلسفة «كانط» المثالية، نظرية «الفن للفن»، رافعة شعار الجفاء بين الإبداع والمجتمع، بكل ما يتضمنه الأخير من قوانين أو أخلاقيات تنظم شئونه، ليتلقفها الشاعر «ثيوفيل جويتيه» وينسج منها خيوط ثورته الفكرية ضد التعاطى مع الفن والأدب بوصفهما أدوات للتعبير عن الذات الإنسانية، قبل أن يستلهم منها «أوسكار وايلد» رائعته المسرحية المثيرة «سالومى»، ويرفض على أساسها «ت. س إليوت»، ما أسماه «خلط الأجناس»، أو التداخل بين الأدب والفلسفة والاجتماع، مؤكدا أن العمل الإبداعى ليس وسيلة وإنما غاية فى ذاته.
فى المقابل، تسنى لـ«جيورجى لوكاتش» أواسط القرن الماضى، أن يستقى من الأطروحات النقدية للفكر الماركسى، ما اصطلح على تسميته «نظرية الانعكاس»، التى تجعل من الفن والأدب مرآة للواقع الاجتماعى، لينبثق منها لاحقا تعبير «الفن الهادف»، الذى يجمع بين الإمتاع والإقناع، من خلال الغوص الشائق فى حياة الناس، وحضهم على ممارسة النقد الذاتى وإعمال العقل، توطئة للاجتهاد فى تقديم المبادرات الكفيلة بإصلاح المجتمع وتغيير البشر نحو الأفضل. ومن عبق ذلك المنحى، الذى تبناه «سارتر» و«جلبرت موراى»، وفلاسفة ومفكرون كثر حول العالم، تفتق الوعى الإبداعى للرائع الراحل وحيد حامد، ولتلك النظرية، جنحت انحيازاته الفكرية وقناعاته القيمية.
لما كانت المواجهة الناجعة للإرهاب والتطرف تتطلب اعتماد استراتيجية تكاملية، تنطوى على مقاربات ثلاث متوازية ومتزامنة، أمنية وتنموية وفكرية، فقد آل وحيد حامد على نفسه حمل لواء النضال فى الميدان الثقافى الذى استوطنه وتعايش معه طوال مسيرته الإبداعية، فانبرى يناهض كل سلوك إرهابى وفكر متطرف من خلال التحليق فى أفق المقاربة الفكرية، متسلحا بوطنيته المتوهجة وقلمه الذى ظل يتنفس أدبا وينبض فنا. وفى هذا المجرى، صبت درره الدرامية، كأفلام: الإرهابى، الإرهاب والكباب، والمنسى، واللعب مع الكبار، وطيور الظلام. علاوة على مسلسلات: كـ«العائلة، وأوان الورد، والجماعة، بجزءيه الأول والثانى، فيما تتضارب الأنباء بشأن انتهائه من كتابة الجزء الثالث قبل جفاف قلمه وطى صحفه.
لقد مضى وحيد حامد فى دربه المحفوف بالتهديدات والتحديات، غير آبه بما يتربص به من إيذاء جسدى، أو اغتيال معنوى فى حياته وبعد مماته من قوى الفساد والشر، التى وطن نفسه لمجابهتها، مهما تعاظم بأسها واشتد خطرها، بكل ما أسبغ الله عليه من قوة، وما بسط له من أجل، أو أغدق عليه من موهبة ومهابة وصدقية.
أذكر أننى بعدما اتفقت فى عام 1999 مع أيقونة مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام، العلامة والمفكر والإنسان الراحل الدكتور محمد السيد سعيد، الذى أسس وأشرف على دورية «أحوال مصرية» كأحد الإصدارات الدورية للمركز، على إعداد تحقيق استقصائى موسع عن الدلالات الثقافية والسياسية للأزمة التى ألمت بالسينما المصرية وقتذاك، انخرطت فى محاورة طيف متنوع من رواد الفن السابع، من ممثلين، أو مخرجين، أو نقاد ومؤلفين وكتاب سيناريو. ووسط مقابلاتى المتوالية مع كوكبة سينمائية متميزة، كان للقائى الأول مع المبدع وحيد حامد فى صومعته شبه الدائمة حينئذ، والكائنة بمقهى أحد الفنادق الكبرى على نيل القاهرة الخلاب، وقعا فريدا، وأثرا عميقا.
فلكم كنت مشدوها بتواضع ذلك العملاق وبساطته التى أشعرتنى وكأننا نفترش الأرض تحت ظل صفصافة على ترعة بريف دلتانا الساحر، خاصة بعدما سألنى عن مسقط رأسى وعرف أننى من الدقهلية قبل أن يخبرنى بأننا جيران لأنه «شرقاوى». وفى خضم حديث كان يفوح عذوبة ووطنية، ولا ينقصه الود والاحترام، أحسست حينها وكأنى أناجى النسخة النثرية الدلتاوية من إبداع الخال شاعر الأرض، عبدالرحمن الأبنودى. وبمرور الزمن، جمعتنا مناسبات عديدة، ما إن نتلاقى خلالها إلا ويستقبلنى بابتسامة ودودة، سائلا باهتمام عن أحوالى، مثلجا صدرى بشىء من الإطراء على ما يتابع من إسهاماتى المتواضعة. وفى كل مرة أبدى له إعجابى بروائعه الدرامية، التى تعكس نبض الشارع وتلامس أحلام البسطاء وتسمو بوعى الجماهير وسط الهزل الذى بات يستخف بالألباب ويزيف الوعى ويؤذى الأسماع والأبصار، كان يبهرنى بتواضعه الملفت، ورحابة صدره لوجهات نظرى، التى لا يستنكف عن الإصغاء إليها باهتمام ومناقشتى فيها بحماس ممزوج بحب وقلق عميقين على وطن نعيش فيه ويعيش فينا، على حد تعبير البابا شنوده الثالث، رحمه الله.
مستلهما قصة الفلاح المصرى الفصيح «خون إنبو»، التى ترجع إلى عهد الدولة الوسطى والأسرة الثانية عشرة، والمدونة بالنص الأدبى المعنون «شكاوى الفلاح الفصيح»، فى أربع برديات وأربعمائة وثلاثين سطرا، تنوعت ما بين المديح والهجاء والنقد البناء، كما استعرضت رحلته إلى بلاط الفرعون «نب كاو رع»، ليشكو مظلمته ويناشده إقامة العدل، فى عشر مرافعات شعرية قدمها على مدى عشرة أيام متتالية، حتى استجاب له الفرعون وأنصفه تقديرا لحكمته وذكائه ودأبه فى الدفاع عن حقه، سطر المبدع على أحمد باكثير عام 1985 رائعته المسرحية الكوميدية ذات الفصول الأربعة «الفلاح الفصيح»، محاولا سبر أغوار العلاقة الملتبسة والشائكة بين المبدع والسلطان، فيما استحضرها الصديق العزيز الكاتب الصحفى والناقد الفنى البارز الأستاذ طارق الشناوى، حينما أقدم مؤخرا على تسطير سفره عن وحيد حامد، الذى وصفه خلاله بـ«الفلاح الفصيح حفيد الفرعون»، مسلطا الضوء على المساعى الحثيثة للمبدع الراحل من أجل إرساء مبادئ العدالة والإنسانية، ونشر قيم الحب والخير والجمال، داعيا أبدا إلى إصلاح المجتمع، مستعينا بإيمانه الصادق، ووطنيته الفياضة، وموهبته الفذة، وقلمه الجرىء.
صال وحيد حامد وجال فى أروقة الأدب والصحافة، كما اقتحم ميادين المسرح والسينما والإذاعة والتليفزيون، وعمل مع عمالقة الدراما، بشتى صنوفها، كمحمود مرسى وأحمد زكى وعادل إمام، وتعاون مع مخرجين عظام مثل سمير سيف، وشريف عرفة وعاطف الطيب، كما خاض معارك ضارية مع الرقابة لتمرير الكثير من أعماله الجريئة. ولقد سألته، ذات مرة، عن كيفية إفلاته بمشاهد تضم مقاطع أو جملا حوارية لا تخلو من نقد قاس وهجوم مباشر، ما يفوق فى وطأته أشد المقالات حدة، ويتجاوز فى جرأته برامج وفعاليات لأحزاب وتنظيمات سياسية وجمعيات حقوقية التى لا تتورع عن نعت نفسها بالمعارضة أو الدفاعية، فكان يجيبنى بابتسامة لا يعوزها دهاء الفلاح وحكمة المبدع المضطر للتحايل على مقص الرقيب بغية توصيل رسالته، غير منقوصة أو مشوهة، إلى الناس وصناع القرار، بأنه كان يدس الطعم للرقابة فى أعماله الدرامية ممثلا فى بعض المشاهد الساخنة، التى عادة ما ينصرف إليها الاهتمام مخافة خدش الحياء العام، فتقع فى الفخ وتهرع إلى حذفها، ظانة أنها طهرت الفيلم من الألغام، ومن ثم تنجو رسائل الإسقاط السياسى والنقد الاجتماعى والتشريح الاقتصادى من المقصلة.
كان الأيقونة السينمائية، المخرج البريطانى الأشهر ألفريد هيتشكوك، قد استن سنة غير مسبوقة فى أفلامه، حذا حذوه فيها مبدعون كثر حول العالم، ألا وهى ظهوره فيها بمنظر سريع، فيما اصطلح على تسميته بـ cameo appearances، استهلها عام 1927 بمشهد فى فيلمه الصامت The Lodger، لكن ظهوره الأصعب والأروع تجلى فى الفيلم الحربى Life boat، الذى أخرجه عام 1944، ودارت جميع أحداثه على متن مركب بعرض البحر، بيد أن المخرج العبقرى تحايل على ذلك بالظهور فى صورة فوتوغرافية دعائية مطبوعة على عبوة دواء للتخسيس تتراءى طافية لأحد الناجين من الغرق. وبعدما استأثرت هذه الظاهرة باهتمام جماهيره إلى حد انشغالهم عن أحداث أفلامه بالتنافس فى اكتشاف لحظة ظهوره فىيها، اضطر هتشكوك إلى تثبيتها بمواضع وأوقات محددة. بدوره، ظهر وحيد حامد على الشاشة الفضية لمرة يتيمة فى مشهد خاطف بفيلم «اللعب مع الكبار»، الذى ألفه وأنتجه عام 1991، بدا خلاله جالسا على مقهى شعبى قبالة النجم الكبير عادل إمام، يلعبان الطاولة. غير أن الإرهاق الفنى والمادى الذى كبده إياه ذلك المشهد بعدما صوره عشر مرات، حمله على عدم تكرار تلك التجربة العصيبة.
بلغ قطار تكريم وحيد حامد، على المستويين المحلى والدولى، محطته الأخيرة مطلع ديسمبر الفائت، حينما منحته الدورة الثانية والأربعين لمهرجان القاهرة السينمائى الدولى جائزة الهرم الذهبى التقديرية لإنجاز العمر، قبل أن يقضى نحبه بعدها بأسابيع قلائل، ليترجل الفارس المغوار، تاركا روائعه الخالدة تؤنس ترقب مريديه ريثما يجود الزمان بنسخة جديدة من الفلاح المصرى الفصيح، لا تقل عن سابقاتها همة وإبداعا، ووفاءً لقناعاتها ووطنها وجماهيرها.