استطاعت قبرص، رغم صغر مساحتها وقلة عدد سكانها وضآلة حجم اقتصادها، أن تتصدر اهتمامات المتابعين للتغير فى توازنات القوى الدولية. لقد أصاب قبرص ما أصاب دول الجوار الأعضاء فى منطقة اليورو من مصاعب مالية، دفعت حكومتها إلى طلب المساعدة من صندوق النقد الدولى والمصرف المركزى الأوروبى.كان المتوقع أن تتعامل القوى النافذة فى منطقة اليورو مع أزمة قبرص كما تعاملت من قبل مع أزمات إسبانيا وإيطاليا والبرتغال واليونان، إلا أنها لم تفعل. فضلت أن تكون قبرص قدوة لبقية دول منطقة اليورو المهددة بأزمة مالية رغم أن إنقاذها كان سيكلف ما لن يزيد على عشرة مليارات يورو، وهو مبلغ بسيط إذا قورن بالمبالغ التى خصصت لإنقاذ اقتصادات إسبانيا واليونان وغيرهما.
جاء رد فعل الشعب القبرصى على الإجراءات القاسية التى فرضت عليه عنيفا تركز أغلبه على ألمانيا، الأمر الذى دفع من جديد بموجة أخرى من العداء لألمانيا فى معظم أنحاء جنوب القارة. هكذا تعود إلى واجهة النقاش العام فى أوروبا «المسألة الألمانية»، وجوهرها اعتبار ألمانيا قوة اقتصادية وسياسية تسعى للهيمنة على بقية القارة الأوروبية. الدوافع كثيرة للغضب ليس أقلها شأنا الفارق فى مستوى التقدم الاقتصادى، هناك أيضا المحاولات المكثفة والجهود التى بذلت عبر ما يزيد عن خمسين عاما لغرس فكرة الهوية الأوروبية الواحدة، ولكن من موقف علوى يضاف إلى السعى المتكرر من جانب قادة تيارات الاندماج لتغيير نمط تفكير شعوب أوروبا المطلة على البحر المتوسط وإقناعها تبنى «ثقافة» وأسلوب حياة شعوب الشمال وبخاصة الشعب الألمانى.
●●●
لقد أفرزت الأزمة الاقتصادية العالمية نتائج تتكشف مع مرور الوقت نتيجة بعد أخرى. لا شك أن تراجع اهتمام الولايات المتحدة عن أداء بعض وظائفها وتخليها عن بعض مسئولياتها فى قيادة العالم، وانسحابها المتدرج من مواقع عدد من النزاعات والحروب، واختيار آسيا والباسيفيكى بؤرة جديدة لاستراتيجيتها العالمية بدلا من أوروبا، هذه جميعا وغيرها بعض نتائج الأزمة المالية التى ضربت الاقتصاد الأمريكى فى عام 2007. لا شك أيضا أن الفجوة فى درجة التقدم الاقتصادى التى تفصل دول شمال أوروبا عن دول جنوبها المتزايدة الاتساع، وتهديد المملكة المتحدة بالانسحاب المتدرج من الاتحاد الأوروبى، وتدهور شعبية ألمانيا بين شعوب أوروبا الشرقية والجنوبية، وتصاعد الضغط من جانب موسكو للقبول بروسيا طرفا فاعلا فى عملية الاندماج الأوروبى، كلها وغيرها من النتائج المباشرة للأزمة الاقتصادية العالمية التى ضربت المواقع الضعيفة فى المنظومة الاقتصادية الأوروبية.
أثارت أزمة قبرص من جديد مسألة مستقبل منطقة اليورو ومسيرة الاندماج الأوروبى والعقبات التى تعترض طريقها. ولكنها أثارت بشكل أوضح قضية مستقبل قبرص ذاتها. لقد مر أكثر من أربعين عاما على الانفصال الذى أدى إلى تقسيم الجزيرة إلى ثلث يسكنه القبارصة الأتراك وثلثين فى الجنوب يسكنهما القبارصة اليونانيون. منذ ذلك الحين والجيش التركى يحتل الجزء الشمالى الذى أعلن نفسه جمهورية قبرصية تركية مستقلة لم تعترف بها دولة أخرى باستثناء تركيا رغم الضغوط التى مارستها أنقرة فى دول الدائرة الإسلامية. تغيرت أمور كثيرة منذ ذلك الوقت، إذ لم يعد القبارصة اليونانيون راغبين فى إقامة وحدة مع اليونان، ولم تعد اليونان بحالة تسمح لها بتشجيع الانفصاليين القبارصة من أصل يونانى، فلا اقتصادها يسمح ولا قوتها العسكرية ولا عضويتها فى الأطلسى والاتحاد الأوروبى تسمحان بالتفكير فى مواجهة جديدة مع تركيا.
بكلمات أخرى، كان يمكن لقبرص أن «تطبع» أوضاعها الداخلية والإقليمية، وتطرح تصورا يعيد الوضع السياسى إلى ما كان عليه قبل أن يقرر القبارصة اليونانيون رفض مبادرة كوفى عنان لتوحيد الجزيرة. كان يمكن لقبرص أن تقيم قواعد للثقة المتبادلة بين شعبى الجزيرة على مشروع مشترك لاستثمار اكتشافات الغاز والنفط الحديثة، بكل ما يعنيه هذا بالنسبة لمستقبل رغيد. كل هذا كان يمكن تحقيقه فى هدوء وبتدرج لولا الأزمة المالية التى ضربت الجهاز المصرفى القبرصى، ولولا قسوة الإجراءات التى فرضتها القوى الدائنة على المصارف والشعب القبرصى، ولولا الضريبة الموجعة التى وجهتها موسكو لنيقوسيا، عندما تركت القبرصيين يحلمون بحل روسى ينقذ اقتصاد قبرص، وينقذ فى الوقت نفسه الودائع الهائلة من الأموال الروسية المودعة فى مصارف قبرص. يقول معلقون إعلاميون إن روسيا تنكرت لحليفتها الأرثوذكسية لأنها أدركت أن ألمانيا، وقيادات اقتصاد منطقة اليورو، قررت القضاء على جميع المواقع التى تمنح المودعين إعفاءات من الضرائب، وأغلبها أموال تكدست بفضل ممارسات فساد وتجارة غير مشروعة. حدث هذا فى الوقت الذى كان أغلب القبارصة يعربون عن رغبتهم فى الرحيل عن منطقة اليورو والاندماج فى منظومة الاقتصاد الروسى.
●●●
ستكون الأعوام الستة القادمة فترة صعبة بالنسبة لقبرص. المتوقع أن ينكمش الاقتصاد القبرصى فى العام الجارى بنسبة 15٪، وأن تزداد معدلات هجرة الشباب بسبب استمرار تدهور أوضاع البطالة لتصل إلى المستوى الذى تدنت إليه فى إسبانيا، خاصة أن نسبة كبيرة من الوظائف القبرصية كانت فى قطاعى المصارف والسياحة وكلاهما أصيبا بضرر شديد فى هذه الأزمة. يكفى أن نعرف أن القطاع المصرفى وحده، المتوقف تقريبا عن النشاط، كان يعادل وحده أكثر من سبعة أضعاف الناتج القومى القبرصى.
ومع ذلك يبقى الأمل فى أنه عندما تبدأ قبرص فى تصدير الغاز، أى نحو عام 2019، يمكن للأحوال الاقتصادية فى قبرص أن تتحسن. عندئذ يتعين على الجاليتين التركية واليونانية الوصول إلى تفاهم، رغم معرفتنا بأن الأجيال الجديدة قد لا تحمل أى ذكرى لأيام الوحدة، وقد لا تستطيع تقدير فائدتها وعائدها. هناك أمل فى أن تركيا، الآن، وهى مختلفة عن تركيا السبعينيات، ستتعامل مع الأزمة القبرصية بحكمة أوفر، فهى أقوى اقتصاديا إلى الحد الذى سمح لبعض المسئولين فيها بالتفاخر على دول فى منطقة اليورو وإعلان استعدادهم المشاركة فى إخراج أوروبا من الأزمة، وهى نفس الدعوة التى تطرحها روسيا، وسبق أن طرحها هوجو شافيز قبل وفاته بشهور حين حث الاتحاد الأوروبى على تبنى نموذج الثورة البوليفارية.
تردد مؤخرا ضمن حملة الإثارة التى رافقت إعلان المصالحة الإسرائيلية التركية، أن تركيا ما كانت لتقدم على مصالحة إسرائيل على أيدى باراك أوباما لو لم تكن قد حصلت على وعد أمريكى يتعلق بمستقبل الوحدة القبرصية ومرور الغاز القبرصى عن طريق الأراضى التركية إلى أوروبا.
هناك أيضا من يتصور أن المصالحة ربما كانت بغرض تنسيق عمليات التدخل فى سوريا، والاستعداد ات الجارية لرسم خريطة جديدة لاستراتيجيات وأمن منطقة الركن «الشمالى الشرقي» فى البحر المتوسط، حيث تتلاقى حقول وأنابيب غاز ونفط وأساطيل دول وأزمات حادة ينتشر أطرافها فى قبرص وتركيا واليونان وإسرائيل وسوريا ولبنان، وكذلك مصر، وإن بدت الآن بعيدة.
يوما بعد يوم، يزداد اقتناعى بأن ما كشفت عنه الأزمة القبرصية حتى الآن لا يتجاوز ما يكشف عنه عادة جبل الجليد.