هرولة فى إشعال الأزمة..
وهرولة فى إطفائها..
وما بين الهرولتين غامض ومريب.. ولا أحد من الأطراف يريد أن يشرح للرأى العام حقيقة ما جرى..
الحديث يتعلق بالأزمة، التى شغلت الرأى العام بين مجلس النواب ومعه كثير من المنابر الإعلامية من ناحية، وبين الأزهر وشيخه من الناحية الأخرى، وهى الأزمة التى افتعلت فى أعقاب الجريمة الإرهابية ضد كنيسة مارجرجس فى طنطا، والكنيسة المرقسية فى الإسكندرية فى يوم أحد الشعانين، قبل أسبوع من عيد القيامة. تلك الجريمة التى أعلن تنظيم داعش مسئوليته عنها، تأكيد لاستمرار استهدافه للمصريين الأقباط.
فعلى حين غرة وجد الأزهر نفسه ضمن المتهمين الرئيسيين فى جرائم داعش، واجتهدت منابر إعلامية بعينها فى تعداد حيثيات هذا الاتهام، التى لا نرى داعيا لتكرارها، بما أن الجميع سمعوها، أو قرءوها، وعلى حين غرة أيضا، وكذلك على عجل، ظهر مشروع قانون جاهز فى الطريق رسميا إلى مجلس النواب، تحت عنوان إصلاح الأزهر، كان من أبرز ما استحدثه من «إصلاحات»، تحديد فترتين لتولى الشخص الواحد منصب الإمام الأكبر، وإخضاع المنصب وشاغله للائحة جزاءات، تنص على إمكانية التحقيق معه، وإحالته إلى لجنة تبحث مدى صلاحيته من عدمها للاستمرار فى موقعه، أى تلغى فى نهاية المطاف الحصانة الدستورية والعرفية لشيخ الأزهر من العزل، فضلا عن توسيع دور السلطة التنفيذية فى اختيار أعضاء هيئة كبار العلماء التى يناط بها انتخاب الشيخ نفسه، وكذلك استحداث مجلس أعلى للأزهر يحد من سلطات الإمام الأكبر، مع النص على دور أوسع للسلطة التنفيذية فى اختيار «ممثلى» المجتمع فى هذا المجلس الأعلى.
وهكذا فإن مشروع القانون خلط عملا صالحا وآخر سيئا، وكان «الصالح» فى المشروع هو مبدأ تمثيل المجتمع فى إدارة الأزهر، حتى لا تبقى هذه المؤسسة مغلقة على تراثها، وفكرها، وحتى لا تبقى شئونها حكرا على أبنائها، على الرغم من أن هذه الشئون تمس المجتمع كله، وتتقاطع بالإيجاب والسلب مع سائر شئون المجتمع والدولة.
أما السيئ فى المشروع فكان: أولا: توقيته الذى بدا وأنه يثبت اتهام الأزهر بالمسئولية المباشرة أو غير المباشرة عن الجرائم الارهابية، وثانيا: الارتباطات السياسية لرعاة المشروع، وهى فى ذاتها ليست عيبا، ولكنها أثارت الشبهات فى وجود أجندة للوبى يستهدف الأزهر، لأغراض ليست واضحة، وليست بريئة فى رأى البعض، وثالثا: فإن فلسفة المشروع أو الغرض الأصلى منه، كان تقزيم منصب الإمام الأكبر، وبسط هيمنة السلطة التنفيذية على المؤسسة بأكملها، بآليات مبتكرة.
كما رصدنا فى البداية لا يوازى الهرولة لاستصدار ذلك المشروع، استغلالا للجريمة ضد كنيستى طنطا والإسكندرية، واستثمارا لسخط الرأى العام المصرى على الإرهاب والإرهابيين، إلا الهرولة لوأد المشروع، والتنصل منه، فبعد أن كان صاحبه قد تفاخر بأن أكثر من مائتى نائب تبنوا مشروعه رسميا، إذا بعدد كبير من الموقعين يتنصلون من التأييد، ثم يعلن رئيس مجلس النواب بنفسه، عدم وجود مشروع قانون حول الأزهر فى المجلس من الأصل، ثم يبادر رئيس المجلس بزيارة شيخ الأزهر فى مكتبه، ويبلغه رسميا بإغلاق هذه الصفحة نهائيا، ثم يقوم وفد كبير من النواب بزيارة الشيخ، لتأكيد احترامهم للرجل ولموقعه، وللمؤسسة الأزهرية.
من المهم عند هذه النقطة، الإقرار بأننا لسنا ضد هذه النهاية «السعيدة» للأزمة بين مجلس النواب، وبين الأزهر، بل إن العكس هو الصحيح تماما، فقد كتبنا هنا من قبل ضد هذا المشروع، وحاولنا بالأدلة والاعترافات إثبات بطلان اتهام الأزهر بأى مسئولية عن ظاهرة الإرهاب المتأسلم محليا وإقليميا وعالميا، وإبراز المسئولية الأمريكية المباشرة، ومسئولية حكومات عربية عن نشوء الظاهرة، وتحويلها إلى شبكة متعولمة.
لكن هذه النهاية السعيدة لا تمنعنا من التساؤل عما جرى بين الهرولة لتمرير مشروع تدجين الأزهر، وما بين الهرولة لإسقاطه والتبرؤ منه، بل يجب أن تدفعنا هذه النهاية إلى البحث عن ذلك الذى جرى بين الهرولتين، لنعرف كيف تحكم مصر، وما الدروس الواجب استخلاصها من القصة برمتها.
من الواضح أولا، أن انفراد الزميل إسماعيل الأشول بنشر نص المشروع فى «الشروق» أتاح فرصة ممتازة للدوائر المعنية فى السلطة التنفيذية، وفى مجلس النواب لاستشعار استياء الرأى العام مما يحاك ضد الأزهر.
وثانيا: لابد أن الأجهزة رصدت استياء مماثلا، وربما أكبر داخل المؤسسة الأزهرية نفسها.
وثالثا: وربما كان هذا هو الأهم والأخطر ظهور ما يسمى باتحاد القبائل العربية فى محافظات جنوب الوادى لمساندة شيخ الأزهر، بشخصه، وبمنصبه، وبعلاقات أسرته العريقة بهذه القبائل، وكذلك علاقات هذه الأسرة الوطيدة بجميع الطرق الصوفية فى مصر جنوبا وشمالا، سيما وقد كثر الحديث عن خصوم للشيخ، مقربين من السلطة، وراغبين فى إبعاده طمعا فى الحلول محله.
وأظننا لم ننس أن قبائل محافظة قنا، التى ينتمى اليها الشيخ (قبل تحويل الأقصر إلى محافظة قائمة بذاتها) سبق لها أن فرضت على الدولة إلغاء قرار تعيين محافظ قبطى.
كذلك لابد أن نفترض أن الارتباطات السياسية لرعاة المشروع (والتى قلنا إنها ليست عيبا فى حد ذاتها) لعبت دورا كبيرا فى تحفيز القيادات القبلية والصوفية للوقوف ضد المشروع.
وإذن فقد كاد سوء التقدير، والهرولة لتدجين الأزهر، واستهداف الإمام الأكبر.. كاد كل ذلك يشعل فتنة كبرى، تؤدى إلى مزيد من الانقسامات فى بلد منقسم أصلا، والى خسائر مجانية بالجملة للنظام السياسى قبل عام واحد فقط من موعد انتخابات الرئاسة، وهكذا تصبح الهرولة من جانب «الدولة» لهذه النهاية السعيدة منطقية، وبالمناسبة فليس فى ذلك أدنى مؤاخذة، لأن جوهر السياسة، هو الإدارة السلمية للمصالح المتعارضة بين القوى الاجتماعية.
لكن تبقى للمؤاخذة أسباب أخرى، ذكرنا منها سوء التقدير فى اختيار التوقيت، والتعسف فى فرض هيمنة السلطة التنفيذية، ونضيف إلى هذه الأسباب الآن، أن تعجل إنهاء الأزمة لوأد الفتنة أنهى ــ فى الوقت ذاته ــ أى حديث حول إصلاح الأزهر جامعا، وجامعة، ومعاهد.. على الرغم من أن الحاجة ماسة لهذا الإصلاح، الذى يجب أن يتضمن إدخال السرديات المتعددة للتاريخ الإسلامى، بدلا من الاقتصار على سردية واحدة تنزل هذا التاريخ منزلة مقدسة، وكذلك إدخال مناهج البحث والتحليل الاجتماعيين فى الدراسات الدينية، ودراسة التاريخ الإنسانى، والتعرف على الحضارات، غير الإسلامية فى الماضى والحاضر، والحد من سلطة الأساتذة أكاديميا على الطلاب، إلى غير ذلك من وجوه الإصلاح.
وقد كان يمكن، بل كان يجب الوصول إلى حل تفاوضى مع شيخ الأزهر، يلتزم فيه الشيخ والمؤسسة الأزهرية بتقديم مشروع يتضمن هذه الإصلاحات، وما يراه من جوانب أخرى للإصلاح، مقابل إسقاط المشروع المعترض عليه... على أن تكون هذه المقترحات الأزهرية موضوعا لحوار مع المجتمع السياسى، وبالطبع مع مجلس النواب.
وربما لا توجد حاجة لمؤاخذة النواب الذين سارعوا بتبنى المشروع، ثم سارعوا بالتنصل منه بعد أن تغير اتجاه الريح، فقد أصبح ذلك معتادا من كثير من النواب.
ويأتى السبب الآخر «للمؤاخذة» على هذه النهاية السعيدة للأزمة مع الأزهر من مقارنتها بأزمة تعديل قانون اختيار رؤساء الهيئات القضائية، إذ على الرغم من اعتراض مجلس القضاء الأعلى، وعلى الرغم من فتوى مجلس الدولة بعدم دستورية هذا التعديل، فإنه قد أقر فى مجلس النواب، وأصدر فى ذات الليلة فى الجريدة الرسمية، ثم منع القضاة من عقد جمعية عمومية للاحتجاج، فما هو مدلول هذه المقارنة؟؟
بكل أسف لاتزال السلطة فى مصر أكثر تفهما للقوى التقليدية، وتفاهما معها، مقارنة بموقفها من القوى الحديثة، ولذا فقد أغدق فضيلة الإمام الأكبر الثناء على مجلس النواب المصرى، فوصفه «بأنه قدم نموذجا متميزا بين برلمانات العالم»!! إذا صح ما نقل عنه.