لم يتوقع الحضور أن يعتلى القاضى بذاته المهيبة منصة الجلسة التى حرص على حضورها عدد كبير من الأطباء والناشطين السياسيين بل والعامة من المهتمين بالقضية «لينطق بالحكم» سنة سجن والعزل من الوظيفة وخمسة آلاف جنيه لإيقاف التنفيذ. توقع الجميع أن سكرتير الجلسة هو من سيتولى قراءة الحكم كمرات عديدة سابقة لكن سيادة القاضى نطق بذلك الحكم الجلل، فيما يبدو ليؤكد أن الطبيب الشاب الماثل فى قفص الاتهام «محمد حسن عبدالمنعم» إنما يستحق عن جدارة أن يعزل من وظيفته وأن يلقى به فى السجن لمدة عام جزاء ما ارتكبت يده أما الخمسة آلاف جنيه فقد حكم بها ليتمكن عند دفعها من تقديم استئناف للحكم.
الطبيب الشاب محمد حسن عبدالمنعم يعمل نائبا فى مستشفى للتأمين الصحى بالعاشر من رمضان. مستشفى محدود الإمكانيات قوام طاقمه الطبى ثلاثة عشر طبيبا. تخدم مدينة العاشر من رمضان والقرى المجاورة لها. عند الثانية من ظهر كل يوم تختلف حركة العمل فى المستتشفى يغادر الجميع ويبقى بها طبيب واحد يقضى فترة نيابية التى تلى فترة الامتياز ليحمل عبء المستشفى كاملا يعاونه طاقم من التمريض.
فى ذلك الصباح نقل إلى المستشفى مصاب فى حريق ولأن المستشفى محدود الإمكانيات تم تحويل المريض لمركز طبى آخر ليتم الاعتناء به، لكن الأمر فيما يبدو كانت له صورة أخرى جنائية استلزمت التحقيق والتحريات فمر بالمستشفى السيد وكيل النيابة يرافقه أحد ضباط الحرس كان طبيبنا الشاب فى حجرة الاستقبال حينما دخل عليه ضابط الحرس يستدعيه للسيد وكيل النيابة فنهض معه لاستقباله فطلب إليه السيد وكيل النيابة أن يتبعه.. لم يمتثل الطبيب لأمر السيد وكيل النيابة لسبب واضح بسيط أنه وحده المسئول عن المستشفى ولا يستطيع بالطبع مغادرته بأى حال من الأحوال وأنه رهن إشارته متى انتهت نوبتجية عمله.
ولأننى لم أكن شاهدا للواقعة ولأن للحقيقة أوجها كثيرة ولأننى أكره الألوان إذا ما كان الأبيض والأسود صورة يعز العثور عليهما وإن كانت هى الحق والعدل فى آن واحد فأنا أرى أن تجريد الواقعة من كل الأحاديث والحكايات والصور يقف عند العنوان الرئيسى للواقعة.
يرفض الطبيب أن يترك موقعه لأنه فى نوبة عمل ويلحق بالسيد وكيل النيابة الذى رأى لى ذلك عصيانا يجب أن يعاقب عليه: توالت الأحداث التى انتهت بضبط وإحضار الطبيب وحبسه أربعة أيام على ذمة التحقيق وانتهى الأمر بذلك الحكم الذى أمسك عن إضافة أى صفة له احتراما لهيبة القضاء والعدالة.
سرى الخبر بيننا كالنار فى الهشيم واشتعل الغضب فى صدورنا ودق الهم رءوسنا ــ عن الأطباء أتحدث ــ وانتظرنا حكم القضاء وكلنا أمل فى أن يعيد الحكم الأمور إلى نصابها. إذا تحدثت عن نفسى وعن ما دار بينى وأصدقائى وزملائى أقول إننى دعوت الله كثيرا أن يجنبنا اشتعال النار من مستصغر الشرر وأن آخر ما أغمضت عليه عينى ابتهال إلى الله سبحانه أن يولى منا من يصلح لتلك المرحلة الحرجة من تاريخ أمتنا. صاحب الرؤية الواضحة والضمير الوطنى والحسى الأخلاقى الواعى لتاريخ تلك الأمة وإلى التغيرات التى حدثت ومازالت تجرى على جانبى النيل. تمنيت على الله ألا يغشى بصر أى من ولاة الأمر عن كل نافخ فى الكير يذكى نار الفتنة بين أبناء الوطن الواحد ويدفع بريح الكراهية لتعصف بأمنهم وتشتت أمانهم.
القضية الأساسية هنا هى العدل المجرد بين إنسان مصرى وآخر: طبيب، مهندس، عسكرى، مدنى وكيل نيابة، فنان، مدرس أو بائع جائل.. كلكم مصريون فاحذروا مستصغر الشرر.