من ثنايا غثاء سيل الدراما الرمضانية، التى آثر أغلبها الهروب من تراجيديا الواقع الكئيب إلى فانتازيا الكوميديا الهزلية أسيرة السطحية والأداء النمطى، أطل مسلسل «الاختيار» لينهى جفاء قطاع عريض من المشاهدين مع المسلسلات التليفزيونية التى تعج بها الشاشة الصغيرة طيلة الشهل الفضيل، بعدما صادف شغفا جماهيريا بالتخفيف من غلواء التداعيات الموجعة لجائحة كورونا، عبر التماس شىء من الإبداع الفنى الهادف والممتع فى آن، عساه ينعش الوجدان ويغذى العقل ويبهج الروح.
فعبر تسلسل دقيق وتناظر بديع لأحداث وحوارات، يبدو أنها نسجت بعناية فائقة وحرفية لافتة، طفق المسلسل يبعث برسائل دقيقة وبالغة الدلالة، تدحض بدورها تراهات وتفند سرديات طالما دأبت التنظيمات التكفيرية المتطرفة على ترويجها لتعتاش منها وتتوسل البقاء والتمكين من ورائها.
وبادئ ذى بدء، يتعين التذكير بأن هشام عشماوى ووليد بدر وعماد عبدالحميد، أو غيرهم من الضباط السابقين الذين ضلوا الطريق وانجرفوا إلى غيابات التطرف والسقوط فى براثن تلك التنظيمات، لم يكونوا بدعا من نظراء كثر لهم حول العالم ضمن ظاهرة كونية مقيتة. فخلال العقدين الماضيين، شهد نشاط وأداء التنظيمات الإرهابية عالميا طفرة هائلة، على المستويين التنظيمى والعملياتى، إثر تمكنها من استقطاب وتجنيد أفواج من الضباط المتقاعدين أو المفصولين من جيوش نظامية وأجهزة أمنية واستخباراتية، ليس فقط على مستوى البلدان الشرق أوسطية التى نجحت تلك التنظيمات فى التسلل إلى بعض الدوائر والحلقات الملامسة لجيوشها ومنظوماتها الأمنية على خلفية الفوضى العارمة التى اجتاحت غالبية تلك البلدان قبل عقد مضى، وإنما على صعيد أعتى الدول الغربية الديمقراطية التى ترفل فى نعيم الاستقرار السياسى والاقتصادى والأمنى، فيما تتمتع جيوشها ومنظوماتها الأمنية بأعلى مستويات المنعة والتحصين.
ومن بين آليات شتى سوغت لهذه التنظيمات الإرهابية إحداث ذلك التسلل الذى يدنو من الاختراق، برز تمكنها من استغلال بعض الثغرات التى شابت الاحترافية العسكرية المؤسسية لتلك الجيوش والمنظومات الأمنية العالمية حتى أتاحت لزبانية التطرف استقطاب بعض رجالاتها، فلقد مهدت بعض المرونة التى اعترت قواعد التجنيد ومعايير الالتحاق بهذه المنظومات العسكرية والأمنية ببعض دول المنطقة، السبيل أمام التكفيريين للزج ببعض شياطينهم للانخراط فى صفوفها بغية تلقى تدريبات احترافية عالية المستوى واستمالة بعض أفرادها، من خلال التفنن فى اكتشاف واجتذاب ذوى الميول المتطرفة والمضطربين نفسيا، فضلا عن أصحاب الحالات الاجتماعية والاقتصادية المتدهورة، خصوصا بين صفوف المتقاعدين منهم والمفصولين، ممن تتملكهم رغبة محرقة فى استعادة الإحساس بالأهمية أو استبد بهم البحث المحموم عن دور مؤثر، علاوة على استثمار شعورهم القاتل بالرفض المجتمعى والارتباك الفكرى، إضافة إلى اهتزاز الانتماء وتعاظم الرغبة الملحة فى الانتقام من دول أو حكومات أو مسئولين يظنون أنهم سلبوهم ثقتهم بأنفسهم وحرموهم الشعور بذواتهم.
وفى وسع كل مهتم أن يهتدى بغير لبس، لإدراك ما أتاحته الهزات والصدمات الكبرى التى ألمت بالدول ومنظوماتها العسكرية والأمنية من فرصة ذهبية أمام التنظيمات الإرهابية لاصطياد ضحاياها، حيث أسهمت الاضطرابات التى ألقت بظلالها على العراق وسوريا منذ عامى 2003 و2011 فى إمداد التنظيمات الإرهابية المتمركزة بالبلدين بعدد هائل من الكوادر العسكرية والأمنية المتميزة. فبينما أسفرت الحرب الأهلية السورية عن تحول ذلك البلد العربى الوازن إلى مرتع وقبلة لآلاف المسلحين والتكفيريين من جميع أصقاع الأرض، الذين هرعت قوى دولية وأطراف إقليمية إلى دعمهم وتوظيفهم كأذرع عسكرية ميليشياوية تعكف على تحقيق مآربها من خلال الحرب بالوكالة، أفضى القرار الأمريكى الكارثى بحل الجيش العراقى فى مايو 2003 وتسريح ما يربو على 400 ألف جندى وضابط، إلى تعزيز صفوف تنظيمات إرهابية على شاكلة «داعش» و«القاعدة»، بقوة احترافية ضاربة، خصوصا بعدما تبوأ كبار ضباط الجيش العراقى السابقين، التواقين للانتقام من واشنطن وأذنابها، مناصب قيادية عسكرية بها، حتى باتوا يعرفون بـ«جنرالات الجهاد»، مما فاقم تهديد تلك التنظيمات وضاعف من خطرها إقليميا ودوليا.
فبفضل الخبرات القتالية غير التقليدية للعسكريين المحترفين المنضوين تحت لوائه، تسنى لتنظيم «داعش» الإرهابى، استغلال الثغرات الاستراتيجية لدى الأجهزة الأمنية والجيوش النظامية لبسط سيطرته على أراضى شاسعة تحفل بالبؤر الجيوبوليتيكية الغنية بمصادر النفط والغاز فى العراق وسوريا، فضلا عن الأعيان المدنية الاستراتيجية كالجسور والسدود ومحطات المياه والكهرباء، بل وإعلان دولة الخلافة الإسلامية المزعومة على امتداد أرض تعادل مساحة بريطانيا، ثم تدارك الصدمة والانتقال فى زمن قياسى، بعد سقوطها لاحقا من العراق وسوريا فى زمن قياسى، بما تسنى لها الإفلات به من أفراد وأموال وأسلحة وعتاد، توخيا للتموضع الجيواستراتيجى فى ملاذات آمنة بديلة بمناطق رمادية مواتية فى ليبيا والساحل الغربى الإفريقى.
بيد أن المكاسب التكتيكية الآنية التى اختلستها التنظيمات التكفيرية بمعاونة العسكريين المحترفين المارقين، تبقى مفخخة بنقاط ضعف جديرة بإجهاض رهانات تلك التنظيمات على اتخاذ أولئك المارقين ركنا ركينا لاستراتيجيتها الخبيثة الرامية إلى إنجاح مخططاتها ومؤامراتها الشيطانية. فإلى جانب البون الشاسع والصادم فى آن ما بين تجربة النضال تحت راية جيوش نظامية أو مظلة مؤسسات أمنية احترافية وطنية، وانتكاسة الانزلاق فى غياهب الجماعات التكفيرية، على النحو الذى تجلت تداعياته فى العلاقة الملتبسة والشائكة بين أولئك الضباط السابقين والقيادات الوسيطة فى تلك الجماعات، إذ لم يكن سهلا على عسكريين احترافيين، كانوا فيما مضى يقسمون يمين الولاء لوطن هو الأغر وجيش هو الأعرق وشعب هو الأحق، الاضطرار إلى تقديم البيعة بالولاء التام والطاعة المطلقة لأفراد جهال وموتورين ومجهولى الهوية، ليسوا سوى مجرد أتباع لقيادات شبحية فى تنظيمات إرهابية هلامية تأتمر بأمر دول معادية تتربص الدوائر بمصر وشعبها قاطبة. وهو الأمر الذى تمخض عن حساسيات ومصادمات برع المسلسل فى إبرازها من خلال حوارات عشماوى وعماد مع قائدهما المباشر فى التنظيم التكفيرى وما رافقها من نظرات حادة متبادلة تشى بأزمة الثقة وتقطر بالتوجس والتربص وعدم الارتياح الممزوج برغبة عارمة فى التمرد والمواجهة على طول الخط، على نحو فسره القيادى التكفيرى لتابعه بخشيته من نزوع عشماوى وعماد، المصدومين مما آل إليه حالهما، للإقدام على أى مغامرة من قبيل الفرار أو الصدام أو انتزاع قيادة التنظيم، التى يرون أنهما أحق بها وأهلها بحكم كونهما ضابطين محترفين سابقين.
ولا ريب فى أن تلقف جهات الاختصاص ودوائر البحث المعنية لرسالة على هذا القدر من الأهمية والخطورة، وشروعها فى إجراء الدراسات المعمقة والمتأنية لجميع تفاصيلها ومحتوياتها، ابتداءً بدواعى وكيفية انجرار بعض المنتمين فى السابق للجيوش النظامية والمنظومات الأمنية إلى شرك تلك التنظيمات التكفيرية، مرورا بمباشرة التحليل الدقيق لأنماط تفاعلهم داخلها واتجاهات تطور العلاقات بينهم وبين أفراد وقيادات تلك التنظيمات فى مختلف المراحل وانعكاس ذلك كله على أفكارهم وأفعالهم، لجدير بالمعاونة على استجلاء الحقائق حول نشأة ومآلات تلك الظاهرة المريبة، بما يمكننا من اعتماد أفضل السبل الكفيلة باحتواء تداعياتها، بأسرع وقت وأقل جهد وكلفة، بل واستئصال شأفتها من المنبع، وبلا رجعة، حتى لا تعود وتقض مضاجعنا مجددا فى قابل الأيام.
ولست أرانى مغاليا إذا ما ذهبت إلى أن الطفرة النوعية فى تفكير وأداء وتسليح التنظيمات الإرهابية عقب انضمام «جنرالات الجهاد» إلى صفوفها، والتى سولت لها تحدى النظام العالمى والدول الوطنية بالاجتراء على إعلان إمارات أو دويلات وولايات وهمية فى العراق والشام والصومال ودول الساحل الإفريقى، كفيلة باستنفار المجتمع الدولى لتبنى استراتيجية وقائية متعددة الأبعاد، تنطلق بدايتها من كبح جماع نزوع بعض الدول لتقديم جميع صور الدعم الممكنة لتلك التنظيمات توطئة لتوظيفها لخدمة مخططاتها، مرورا بتفعيل وتعميق التعاون الفنى والاستخباراتى بين دول العالم، وصولا إلى إحاطة العاملين بالجيوش النظامية والمنظومات الأمنية بأقوى شبكات التحصين الفكرى والاجتماعى والمؤسسى، عبر مراجعة وتدقيق آليات ومعايير التجنيد والاختيار، وتحديث برامج التدريب والتأهيل الفكرى والنفسى داخلها، بالتوازى مع ابتكار استراتيجيات وبلورة مبادرات ناجزة لاستيعاب طاقات وتطلعات المتقاعدين أو حتى المفصولين من أفرادها لأسباب متنوعة، وإعادة تأهيلهم، عسكريا ومدنيا ونفسيا، من خلال إيجاد صيغ ملائمة لتجديد علاقاتهم بأماكن عملهم الأصلية، أو الاستفادة من خبراتهم وإمكاناتهم وامتصاص ما لديهم من فائض طاقة وحماس فى مجالات الخدمة المدنية، تحت سياج من المتابعة الدقيقة والمتواصلة، بما يحول دون انزلاق أى منهم مجددا فى دوامات التطرف، أو الوقوع فى شباك الجماعات الهدامة أو التنظيمات التكفيرية.
وغير بعيد، أحسب أن المسلسل قد أبدع فى دحض ادعاءات التكفيريين ومن شايعهم فيما يخص معاداة الجيش المصرى للدين والمتدينين. فلقد تراءى للجميع مدى الالتزام الأخلاقى والدينى لرجال القوات المسلحة، قادة كانوا أو ضباطا أو جنودا، وانجلى لهم مقدار تمسكهم بمبادئ الدين السمحة الوسطية المعتدلة دونما تطرف وبغير إفراط أو تفريط. الأمر الذى يؤكد، بما لا يدع مجالا للشك، أن رفض المصريين لخروقات التيارات التكفيرية وانتهاكات الجماعات المتأسلمة، التى تحاول جميعها استغلال الدين لتبرير جرائمها وتسويق مشاريعها، أو توظيف العقيدة لبلوغ مآرب سياسية مغرضة، ولو على حساب الدين والوطن وقاطنيه، لا يمكن أن يستتبع بالضرورة أى عداء من قبل الدولة المصرية وجيشها وشعبها للدين بحد ذاته، لاسيما وأن الشعب المصرى، الذى يعكس جيشه مختلف مكوناته ومشاربه، مؤمن بفطرته متدين بطبيعته، ولا يمكن أن تهتز عقيدته أو تتراجع مكانة الدين المحورية التى شكلت صلب حياته منذ فجر الضمير، مهما تفانى التكفيريون المرجفون المتأسلمون فى تشويه ذلك الدين، أو تبارى المتاجرون به فى الإساءة إلى معتنقيه ورميهم، ظلما وجهلا وغلوا، بالكفر أو الإلحاد جراء تصديهم لهم والامتناع عن مجاراتهم أو السير فى ركابهم.
أخيرا وليس آخرا، وعلى رغم كونه لا يزال قيد العرض حيث لم تطو بعد صفحة حلقاته وأحداثه المتدفقة حتى كتابة هذه السطور، بما يفتح الباب على مصراعيه أمام العديد من الأفكار والمزيد من القضايا الجديرة بالوقوف عندها، يحمد لمسلسل «الاختيار» إتاحته فرصة ذهبية لتجديد تحية التقدير والإكبار لروح البطل الشهيد أحمد المنسى كما أرواح جميع شهداء الواجب فى مختلف مجالات العمل الوطنى، مع الإشادة بالدور التنويرى البطولى للشئون المعنوية بالقوات المسلحة، لإنجازها ذلك العمل الدرامى الراقى، الذى صالح النشأ والطلائع على ذاكرتهم الوطنية، قبل أن يعيد الاعتبار المفقود منذ سنوات للدراما الرمضانية. ولعلها إشادة لا تخلو من مناشدة لمواصلة ذلك العطاء الوطنى بإنتاج المزيد من هذه الأعمال التى ترسخ مآثر قواتنا المسلحة الباسلة وتبرز مناقب شهدائنا فى وجدان شعبنا، عبر توعية وتبصير الأجيال الجديدة بالإنجازات والانتصارات التاريخية التى بلغت حد الإعجاز، سواء فى ساحات الوغى، أو فى ميادين التنمية وزمن الجوائح الوبائية وأوقات الملمات والكوارث الطبيعية، والتى يتألم المرء أسفا كون الإرث الدرامى المصرى، على عراقته وريادته، لم يوفها حقها، أو يقدرها حق قدرها.