لسنوات طويلة كان المواطنون العرب يسخرون ويتندرون من بيانات الشجب والإدانة والاستنكار، التى تصدرها الحكومات والأنظمة العربية ضد الممارسات العدوانية الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطينى فى الضفة وغزة ولبنان وسوريا.
المواطنون العرب كانوا يعتبرون تلك الإدانات تخاذلا وتراجعا عن الالتزام القومى بقضية العرب المركزية أى القضية الفلسطينية. الآن لم يعد فى مقدور عدد كبير من الحكومات العربية، حتى مجرد إصدار بيان شجب وإدانة واستنكار قوى على مستوى الألفاظ ضد إسرائيل.
ليس ذلك تجنيا على هذه الحكومات العربية، بل قراءة هادئة للواقع العربى الأليم، ومن لا يصدق ذلك، عليه بتحليل ومراجعة بعض البيانات التى صدرت قبل أيام من الحكومات العربية ضد محاولات إسرائيل الأخيرة طرد عشرات العائلات العربية من منازلهم فى حى الشيخ جراح وحى سلوان فى القدس العربية المحتلة، وكذلك الاقتحامات المتتالية من المستوطنين للمسجد الأقصى تحت حماية الشرطة الإسرائيلية لإكمال مخطط التهويد الكامل.
الموقفان المصرى والأردنى كان الأفضل نسبيا لأنهما لم يكتفيا ببيانات الإدانة، لكنهما استدعيا السفيرين الإسرائيليين فى كل من القاهرة وعمان، وأبلغاهما بضرورة التوقف عن الممارسات غير القانونية وغير الشرعية ضد الفلسطينيين، ورغم ذلك، يظل هذان الموقفان غير كافيين بالنظر إلى الدور المركزى الذى يفترض أن تلعبه كل من مصر والأردن، ليس فقط دفاعا عن القضية الفلسطينية، ولكن عن الأمن القومى لكل دولة على حدة.
لأول مرة فى البيانات الرسمية العربية ضد الاعتداءات الإسرائيلية وبدلا من الشجب والرفض صرنا نستمع إلى عبارات لم نكن نتخيل أن نسمعها مطلقا.
على سبيل المثال قرأنا فى بعض هذه البيانات تعبيرات جديدة مثل «دعوة إسرائيل إلى خفض التصعيد»، وكأن من يصدر هذا البيانات دولة فى البحر الكاريبى.
«خفض التصعيد». يفترض أنه مصطلح بعبر عن تكافؤ بين قوتين، أو يدعو إلى اتخاذ إجراءات أقل حدة، بما يعنى أن إسرائيل تملك شرعية فيما تتخذه من إجراءات، وكل المطلوب منها أنها تخفض من تصعيدها ضد الفلسطينيين.
بعض البيانات العربية استخدمت للمرة الأولى تعبيرات غريبة، مثل دعوتها لسلطات العدوان الإسرائيلى إلى ممارسة أقصى درجات ضبط النفس. وهذا التعبير لمن يتابع مجريات الصراع العربى الصهيونى دأبت الولايات المتحدة وعدد من بلدان الاتحاد الأوروبى على استخدامه فى وصف الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة ضد الشعب الفلسطينى والشعوب العربية خصوصا فى سوريا ولبنان.
لكن المفارقة أن البيان الأمريكى الأخير قبل أيام الصادر عن وزارة الخارجية طالب إسرائيل بالتوقف عن تهجير الفلسطينيين من بيوتهم فى حى الشيخ جراح، وهو تطور مهم جدا، خصوصا إذا قورن باللهجة اللينة والرخوة فى بيانات بعض الحكومات العربية، رغم أننا ندرك حجم الانحياز الأمريكى الفاضح والسافر لإسرائيل ولولاه ما تجرأت إسرائيل على ممارسة أعمالها العدوانية.
تعبير ضرورة «استخدام أقصى درجات ضبط النفس»، قد يفهم فى ترجمته الواقعية السماح لإسرائيل بممارسة عدوانها المستمر مع الفلسطينيين، ولكن بصورة مستترة وخفية، ومتحضرة وراقية، حتى لا يحرجوا البلدان التى تؤيدهم!
والمفارقة أيضا أن عددا كبيرا من المواقف الأوروبية صارت أقوى بكثير على أرض الواقع من بيانات دول عربية مختلفة، بل إن قناصل العديد من الدول الأوروبية زاروا حى الشيخ جراح أمس فى خطوة دعم مهمة ورمزية للعائلات الفلسطينية المهددة بالطرد من بيوتهم.
قبل شهور بررت بعض البلدان العربية إقدامها على إقامة علاقات مع إسرائيل، بأنها تهدف إلى إقناع إسرائيل بوقف عدوانها على الفلسطينيين ووقف ضم وتهويد الأراضى الفلسطينية، وتهيئة الأرض لسلام عربى إسرائيلى حقيقى.
أتمنى أن تراجع هذه البلدان العربية نفسها بهدوء وواقعية، وتستخلص العبر، وتعلن صراحة إما أنها كانت تريد علاقات مع إسرائيل بغض النظر عما تفعله ضد الففلسطينيين والقدس والأقصى، وإما أنها أخطأت الحساب والتقدير وبالتالى تملك الشجاعة لتصحيح خطئها.
أدرك أن ذلك لن يحدث مثلما يدرك غالبية العرب أن عبث بعض الحكومات العربية وصل إلى درجة اللامعقول والكوميديا السوداء.