مصر هى أم التاريخ، أو فإن التاريخ هو أبو مصر. وربما كان الأصوب أن العلاقة بين مصر والتاريخ علاقة مزدوجة تشمل الجانبين. إن العلاقة بين مصر والتاريخ علاقة فكرية على الرغم من كل ما يبدو الآن من أن العلاقة بينهما علاقة أمنية.
قد يبدو أننا ــ نحن المصريين ــ نعمل الأن على استعادة العلاقة بيننا وبين التاريخ، وهذا صحيح من جوانب كثيرة، ولكن علينا أن نعى أن هذه العلاقة بيننا وبين التاريخ لم تنقطع فى أى وقت. لم تنقطع حتى عندما وقعت مصر تحت احتلالات كثيرة. عندما كانت مصر محتلة من دولة أقوى عسكريا بقيت مصر هى الدولة الاكبر والاهم تاريخيا. بقيت مصر اكبر من الدولة الرومانية حينما كانت تحت الاحتلال الرومانى. وبقيت مصر أكبر دولة إسلامية عندما دخلها الإسلام أول ما دخلها كقوة احتلال. ولا تزال مصر أكبر ــ بمعنى أهم ــ دولة إسلامية مع أنها ليست الدولة الاسلامية الأكبر من ناحية العدد السكانى أو الأكثر ثراء من الناحية الاقتصادية. بل إن مصر بقيت الدولة الأكبر من بريطانيا عندما كانت بريطانيا تحتل مصر عسكريا وقت أن كانت بريطانيا أقوى دول العالم الاستعمارية. وقبل بريطانيا ينطبق هذا بالتأكيد على فرنسا.
•••
بل إن مصر بقيت أكبر من الاحتلال الإسرائيلى عندما كانت إسرائيل تحتل جزءا من مصر وتهدد كيان مصر كله. وقد وعت مصر ذلك وواجهت إسرائيل عسكريا ثم دبلوماسيا حتى غادرت سيناء مرغمة. بل إن إسرائيل وعت ذلك ولا تزال تعيه. إنها تدرك أن مصر هى العدو الأكبر والأخطر فى مواجهتها، وتدرك أن مصيرها – مصير إسرائيل – يتوقف على موقف مصر منها وعلى دور مصر فى تحرير فلسطين. ذلك أن مصر هى زعيمة الوطن العربى وأكبر قوة ضاربة فيه. ينطبق هذا فى كل الأوقات وبلا استثناء. ولعل هذا هو السبب الرئيسى فى السكوت الإسرائيلى الحالى على دور مصر العسكرى والمدنى فى سيناء. فإن هذا الدور يؤدى واجبه فى شبه الجزيرة المصرية على الرغم من أن اتفاقات مصر مع إسرائيل أخرجت مصر من سيناء بشروط محددة أهمها ان تبقى مصر بعيدة عسكريا عن سيناء.
ومن المؤكد أن مصر لن تغادر سيناء مرة أخرى تحت أية ظروف يمكن أن تتصورها إسرائيل.. أو أمريكا أوأى دولة كبرى يمكن أن تتصور لها دورا اقليميا أو عالميا فى منطقتنا.
•••
وربما يطرأ على بعض الأذهان فى هذا الموقع التساؤل عن الظروف الحالية لمصر. فقد تبدو الظروف الحالية المصرية على درجة من التناقض مع هذه المقدمة عن أهمية مصر التاريخية. ولكن مثل هذا التساؤل يبدو غير مبرر ذلك أنه لا يبرر أى اعتقاد بأن مصر تراجعت عن موقعها المتفوق السابق. ونبادر هنا لنؤكد أن مصر لم تتراجع تحت ضغط أى ظرف تاريخى عن هذا الموقع الذى لم تغادره أبدا من قبل. وينبغى أن نبادر هنا أيضا إلى التأكيد بأن قوة مصر تعتمد الأن على قواتها المسلحة فى إظهار قدرتها على البقاء فى هذا الموقع. ولا يعنى هذا أن القوة العسكرية كانت دائما مصدر تفوق مصر وتبوئها مكانة الدولة الأهم فى العالم. إنما كانت قدرة مصر الروحية أوالاقتصادية أوالثقافية أو غيرها هى السبب الرئيسى لبلوغها نقطة العلو والتفوق عالميا قبل ذلك. أما لماذا تتبوأ مصر مركزا عسكريا بارزا فى المنطقة الآن فلأن القوة العسكرية أصبحت هى مقياس القوة والعلو فى عالمنا المعاصر. إن دولا أخرى تتمتع الآن بقدرات ثقافية عالية فى الوقت الحاضر لا تكاد تجد لها مكانا بارزا فى عالمنا الحالى.
•••
ومصر تملك الآن ما هو كاف لتعلو فوق القوى العسكرية التى أهلتها للصعود نحو المنطقة العربية قادمة من قارة هى أبعد قارات العالم عن هذه المنطقة. ولهذا ليس خافيا أن هذه القوة العسكرية الآتية من بعيد تطبق بقوتها هذه فى محاولة لتقسيم المنطقة وتمزيقها، إلا أنها لا تجرؤ ولا تتمكن من الزحف نحو مصر بقصد تحقيق هذا التقسيم فيها. إنها ــ هذه القوة الأمريكية غير العادية ــ تدرك أن قوة مصر كما تتمثل فى جميع نواحيها وقدراتها غير قابلة للإخضاع بأى حال وبأية درجة. أمريكا هنا قريبة للغاية من شواطيء مصر وأراضيها وحدودها، ولكن خيال أمريكا ومخططيها العسكريين لا يستطيع أن يتطلع إلى إخضاع قوة مصر عسكرية أو روحية أو ثقافية.
أمريكا، أو القوة التى يمكن أن تحل محلها، تستطيع أن تعتمد على أسلحتها وقدرتها القتالية فى حدود متاخمة لمصر ــ كليبيا مثلا فى حالة الحرب أو السعودية مثلا فى حالة السلم ــ ولكنها لا يمكن أن تصل إلى حد اتخاذ قرار بأن تهاجم مصر. فإن مصر قادرة بكل الظروف والأحوال الراهنة على أن تبعد عن نفسها خطر أية قوة مسلحة مهما كانت قوية.
مصر وطن استثنائى فى كل الاحوال والظروف.