نشرت مجلة أفق التابعة لمؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب «حسن شامى» ــ الكاتب والإعلامى اللبنانى ــ حول تراجع الحضور الأوربى عالميا والانتكاسات المتتالية التى يتعرض لها على مختلف الأصعدة. يستهل الكاتب المقال بتناول بدايات تدشين الاتحاد الأوربى، فحين كان الاتّحاد الأوروبى فى العام 1963 لا يزال مشروعا فى أولى مراحل تنفيذه (بدأ مع «المجموعة الأوروبية للفحم والصلب» عام 1957)، توقعت الرؤية المستقبلية أنه سيكون الإطار الذى تنتظم فى داخله (بسلاسة وبمحفزات دائمة على التطور) جميع دول القارة، بما فيها تلك التى كانت تحت الحكم الشيوعى، والتى توقّع لها أحد واضعى اللّبنة الأولى فى بناء الاتحاد الأوروبى روبير شومان أن تتحرر منه.
مرَّ نصف قرن ونيّف، والمجموعة التى كانت تضم ستَّ دول صارت كيانا عملاقا، بسكّان يزيد عددهم على النصف مليار، وبموارد وإمكانات اقتصادية وعلمية كبيرة، وقدرات عسكرية وتشريعات موحّدة ولوائح صريحة تنظِّم العلاقات والنشاطات داخله، ومع الخارج. وما كان تجمّعا فى مسمّاه الفحم والصلب، صار عليه أن يثبت جدارة فى عالَم التكنولوجيا والبيئة النظيفة، والأبحاث الرائدة.
كانت رؤية مُتفائلة، تبيَّن مع النجاحات التى تتالت على مدى سنوات أنها واقعية، قبل أن يشهد الاتحاد انتكاسات على صُعُدٍ مختلفة، تراجع معها الحضور الأوروبى عالميّا، فى وقت كانت مشكلات داخلية تعصف بدوله، بعضها كان له سبب مُشترَك كالأزمة المالية العالمية فى 2007 ــ 2008، وبعضها يتعلّق بعدم الاتّساق بين دول الاتّحاد فى السياسات المتَّبعة فى إدارة الشأن العام، وفى السياسة الخارجية، كما برز خصوصا فى التعامل مع القرار الأمريكى فى العراق وتطورات الأزمة السورية.
تجمعت المشكلات الخاصة بكل بلد أوروبى، لتلقى بثقلها على منظومة أوروبا الموحَّدة، فبدا وكأن الاتحاد الأوروبى يواجه امتحان جدارة واستحقاق، شاءت التطورات أن تكون هذه السنة موعده: بريطانيا العظمى اختارت الانفصال بعد التصويت على «البريكست»… قدرة الاتحاد المالية على مُعالجة أزمات أعضائه تنزف من الخاصرة اليونانية. الإرهاب الذى كان خطرا مرتقبا من خارج الحدود بات مُقيما فى الداخل، حيث الذين ينفّذون الأعمال الإرهابية مواطنون بالولادة والتعليم لا تربطهم بأصول آبائهم غير صلة الاسم والدّين. بل إنّ الداخل نفسه صار يصدِّر الإرهابّيين للقتال مع داعش والنصرة وسواهما. فرنسا وهولندا تخشيان نجاح اليمين المتطرّف فى كلّ منهما، بعد التصاعد المتتالى فى شعبيّته، مستفيدا من تراكم فشل القوى السياسية الأخرى فى مواجَهة المشكلات المتداخلة. الأيديولوجيا تتقدّم على البراجماتية، أوروبا السياسة الراهنة مندفعة نحو اليسار الراديكالى فى الجنوب، ومنجرفة مع تيّار الشعبوية فى الشمال والشرق. ووسط ذلك كلّه جاء تدفّق اللّاجئين برّا وبحرا ليكشف عدم «جهوزيّة» لوجستية وسياسية على التعامل الناجع مع الأمور الطارئة.
***
يضيف الكاتب أن أسباب الفشل مصدرها الأوّل قصور السياسة فى أوروبا عن المُواجَهة، سواء كسياسة مُشترَكة من ضمن الاتّحاد أم فى كلّ دولة على حدة. ثمّة انشقاق يتوسّع بين أنصار مجتمع العَولَمة وأولئك الذين يرفضون هذه الظاهرة. فمفاعيل الأزمة المالية العالمية ما زالت تجرّ ذيولها، ولا تزال الاقتصادات الأوروبية تُكابد مشقّة استعادة الانتعاش المفقود والنموّ المطلوب، ومُحارَبة البطالة.
فى ظلّ هكذا قصور عن مواجَهة المشكلات الملموسة، انفسح المجال لبروز طروحات اليمين الشعبوى، وعاد التهويل بمخاطر تتهدّد «الهويّة الأوروبيّة»، وترسّخت مشكلة الاندماج فى التعامل مع المواطنين من أصول أفريقية وآسيوية، وبات يُنظر إلى أماكن سكنهم التى يجمعها تقارب العادات والتقاليد، على أنّها «جيتوهات» داخل المدن.
وُضعت على الرفّ ثقافة التنوّع والقبول به. صارت «الإسلاموفوبيا» بندا ثابتا فى الحملات الانتخابية، لا فرق بين مَن هُم أصحاب هذه الحملة أو تلك. فاليمين المتطرّف يرفع لواء محاربتها وطرد المهاجرين شعارا مُشهرا فى العلن، والمعسكر المناوئ يتقدّم ببرامج تُقارِب المسألة من منظور آخر، لكنّه فى الغالب يخضع للطرح الذى يعتبر ذلك هو الخطر الداهم الأوّل، وهو ما تكشَّف مع تحذير أطلقه قبل سنة رئيس الاستخبارات الداخلية الفرنسية باتريك كالفار مفاده «أنّنا على شفا حرب أهلية»، وأنّ كلّ الأسباب الموجِبة لخطر هذه «الحرب» موجودة، ليس فى فرنسا وحدها بل فى دول أوروبية أخرى كألمانيا والسويد.
فى هذا الخضمّ، ظهر الاتّحاد ككيان أشبه بجسد غلب عليه الترهّل فأعياه عن حمل الأعباء الملقاة على عاتقه بكفاءة واقتدار، مع أنّ هذا الجسد يتمتّع فى بنيانه بما يلزم من مقوّمات، وضعتها معاهدة ماستريخت قبل خمسة وعشرين عاما.
بدت أوروبا الموحَّدة كيانا غير قادر على السير قدما بالثقة اللّازمة، كحال الذى تُفاجئه عوارض الشيخوخة المبكرة، وهو الذى بالكاد ينهى السنة الخامسة والعشرين على تبلور صيغته المكتملة، سياسيا واقتصاديا وأمنيا ومواطنة، فى معاهدة ماستريخت 1992.
الانتخابات التى كانت مناسبة للتجديد، تحوّلت فى السنوات الأخيرة إلى ساحة صراع فى عدد من الدول الأوروبية، تخوضه النُّخب السياسية منقسمة على حالها، فى مواجَهة خطر الشعبوية بأحزابها الداعية إلى القوقعة. وحتّى حين تنتهى الانتخابات بعدم انتصار اليمين المتطرّف، كما حصل فى فرنسا وهولندا، فإنّ الواقع يبقى أنّ هذا اليمين يحظى بأصوات ملايين كثيرة من الأوروبيّين، وأنّه هو قوة الاعتراض الوازِنة، وأنّه لم يفقد زخم اندفاعته بعد، وهو لا يزال تيّارا ناهضا يقنع فئات من الشعب، من خلال مخاطبة عواطفه، والعزف على وتر مخاوفه.
يتغذّى اليمين المتطرّف من فشل السياسة التى اتّبعتها النُّخب الحاكمة، ومن ابتعاد هذه النُّخب عن هموم شعوبها أوّلا، وكذلك عن قِيَم الديموقراطية بمعناها الواسع. العجز هذا جعل خطاب الشعبوية يعلو ومنطقها يستقطب أعداء النّخب «المُعولَمة» التى هى فى السلطة حاليّا، سواء فى اليمين أو اليسار. واللّافت كدليل على الفقر السياسى لدى كثير من هذه النّخب أنّها لا تجد أحيانا ما تدارى به فشل سياساتها غير التقليل من أهليّة الناخب وسوء خياره!.
الأوروبيّون الذين يصوّتون اليوم لليمين المتطرّف، والبريطانيّون الذى اختاروا «البريكست»، إنّما يمارسون فعل اعتراض صريح على النّخب الحاكِمة، يعبّرون عن خيبة أملهم والقلق، يحتجّون على النخبة «المُعولَمة» التى بدأت بتحويلٍ جذرىٍّ للمجتمع من دون أخذ رأيهم فى هذا التحوّل، بل، وهنا لبّ المسألة، لم يصوّتوا انسجاما مع شعارات اليمين المتطرّف الذى يقول ما فحواه: «اقتلوا المسلمين الذين يريدون تحويل بلدى، وسرقة فرص عملى، والاستفادة من أموال الضرائب التى أدفعها».
***
هل يعنى هذا كلّه أنّ أوروبا تعانى أزمة مصيريّة؟
أغلب الظنّ أنّ الجواب «لا»، وأنّ السؤال سيبقى مطروحا بأشكالٍ مختلفة. فقبل خمس سنوات صدرت مجلّة «لو فيجارو ماجازين» عشيّة الجولة الثانية الحاسمة من الانتخابات الرئاسية، وقد عنونت غلافها بعبارة «أىّ فرنسا نريد؟». بدا السؤال كأنّه يطرح مسألة مصير فرنسا فى المستقبل. أمّا متابعة الأمور فى دول أخرى فأظهرت أنّ مثل هذا السؤال ليس شأنا فرنسيّا حصرا، وأنّ الأجوبة المتسرّعة سلاحٌ ذو حدَّين، كما الحال مع الخروج البريطانى من الاتّحاد الأوروبى، الذى تبدو «محاسنه» مشكوكا فيها، بينما «مساوئه» واضحة صريحة.
نافذة المستقبل مفتوحة على التفاؤل أكثر منه على غير ذلك. لكنّ هذا منوط بالسياسة، ففساد الخطاب الشعبوى، وهو لا يملك مشروعا متكاملا، بقدر ما يتحرّك فى إطار اعتراضىّ، لا يمكنه أن يجيب عن معظم الأسئلة المطروحة بشأن المُعالَجة المتكاملة للمشكلات التى وجدت أوروبا نفسها تواجهها بعجز ومن دون حلول ناجعة.
لعلّه من المفارَقة أن تغرق أوروبا فى ما يُشبه العجز عن اعتماد سياسة موحّدة فى التعامل مع مسألة اللّاجئين السوريّين إليها، بينما بلدان صغيران هما لبنان والأردن يستقبل كلٌّ منهما وحدَه عددا مضاعفا لعدد اللّاجئين إلى أوروبا.
ختاما يؤكد الكاتب أن اليوم لم يسقط مشروع اليمين المتطرّف بالكامل، لكنّ نجاحه فى المستقبل ليس قدرا، أو مرجّحا ما دامت الشعبويّة هى سلاحه الأقوى. المشروع الأوروبى يبقى حاجة لدول القارّة وللعالَم. وهو لا يزال يملك فرصة النهوض والتطوّر. أعداؤه فى الخارج يكادون ينحصرون بعد أن برزت ملامح تحوّل فى سياسة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، فى اتّجاهٍ لا يلتقى مع سياسة الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، كما كان يبدو سابقا.
لا يُمكن التعميم فى توصيف الهويّة، لتشمل جميع الذين يعيشون فى حيّز جغرافى بعينه، سواء كبر أو صغر. ذلك أنّ تمايز الهويّات هو فى صلب التمايز بين أمّة وأخرى، حين تشكّل كيانها كأمّة ودولة وطنية. أمّا ما بات هاجسا يلهج به اليمين المتطرّف، عن خطر تزايد أعداد المُهاجرين، قبل أن تبرز مشكلة اللّجوء ــ السورى خصوصا ــ فى السنوات الثلاث الأخيرة، فإنّه يبقى من لزوم التحريض السياسى فى الخطاب الشعبوى لهذا اليمين، فى وقت يفترض أن أوروبا تمتلك تراثا من ثقافة التنوّع والوعى الجمعى، يُمكِّنها من استيعاب المتغيّرات المستجدّة، وتوظيفها فى تحصين الهويّة الوطنية.
الشعبوية لم تبلغ منتهاها بعد، وهى ستبقى تحدّيا قائما فى المستقبل. هذا صحيح، لكنّ مشروعها لا يملك منطقا متجانسا مع حقائق العصر، وبالتالى فإنّ أُفُقَه يكاد يكون مسدودا… التحدّى الأكبر هو السياسة التى سوف تتّبعها نخب أوروبا المُستهدفة أوّلا بهذه الشعبويّة.
النص الأصلى