إذا بليتم فلا ستر ولا ساتر - جميل مطر - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 5:36 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

إذا بليتم فلا ستر ولا ساتر

نشر فى : الأربعاء 11 أغسطس 2010 - 11:05 ص | آخر تحديث : الأربعاء 11 أغسطس 2010 - 11:05 ص
فى زمن الكتابة على الورق كان الناس يتبادلون رسائل الغرام ويحافظون عليها ويحرصون على أن تبقى محتوياتها أسرارا تستحق الحماية. وإذا قدر للعلاقة التى أثمرت هذه الرسائل أن تذبل أو تنتهى عاد الطرفان إلى رسائلهما يتبادلانها بوعد التخلص منها. كل يعدم ما يحتفظ به من رسائل بعث بها الآخر. وبعدها يبدأ من يشاء منهما علاقة جديدة مطمئنا إلى أن إعدام الرسائل هو أفضل ضمانات النسيان. والنسيان فى بعض الحالات شرط لا غنى عنه أو نعمة لنسج علاقة جديدة ولصعود شخص طموح على سلم السياسة والمجتمع.

ومع بداية غروب العصر الورقى وفى ظل هيمنة التراسل الرقمى لم يعد ممكنا أن تطمئن امرأة ورجل إلى أن علاقة بينهما تتوطد وتتوثق طالما بقيت شبكة الإنترنت محتفظة بأسرار كل منهما تتحدى بها النسيان. كل صورة أو رسالة أو وثيقة أو خبر صحفى أو نميمة أو شائعة أودعت فى هذه الشبكة فقدت صلتها بمرسلها ومتلقيها وأصبحت ملكا للشبكة التى ترفض التخلى عنها ولا تخفى نيتها الاحتفاظ بها ليطلع عليها من يشاء وقتما يشاء. يكاد يكون فى حكم المستحيل أن يفلح شخص، امرأة كانت أم رجلا، فى سحب كل ودائعه المحفوظة بدقة بالغة فى دهاليز الشبكة والتخلص منها بإعدامها إلى الأبد مثلما كان يفعل وهو فى العمر صغيرا أو مثلما فعل أهله.

كتب جيفيرى روزين فى مقال نشرته فى عددها الأخير مجلة نيويورك ريفيو اوف بوكس يقول إن أشهر مقال عن التهديد الذى يواجه خصوصية الفرد وأسراره الشخصية، كتبه صامويل دارين ولويس برانديس فى عام 1890. فى مقالهما عبر الرجلان الشهيران فى عالم المال والأعمال عن ضيقهما بسبب الاختراق المتزايد من جانب التكنولوجيا لحياة الفرد، قالا إن النميمة لم تعد كما كانت رصيد العاطل والشرير بل صارت مصدر رزق وسلعة للمتاجرة. أما التكنولوجيا التى سببت لهما هذا الضيق فكانت عبارة عن آلة تصوير فوتوغرافى اخترعتها شركة كوداك وصحف جديدة تطبع على شكل التابلويد؛ أى القطع الصغير، وتوزع على نطاق واسع فى محطات القطارات وأسواق الأحياء. لم يدر بخلد الاثنين أنه بعد قرن ويزيد سوف تعلن مكتبة الكونجرس فى واشنطن، كما فعلت منذ أسابيع، أنها قررت الاستحواذ على أرشيف يضم كل الاتصالات التى تمت باستخدام التويتر ابتداء من عام 2006.

ما نكتبه عاما أو خاصا، وما يكتبه الآخرون أو تسجله الشبكة عنا، عن رحلاتنا وحفلاتنا، عن مقابلاتنا وتصريحاتنا، وعن أدق تفاصيل حياتنا، من أين جئنا وفى أى وسط اجتماعى نشأنا وعلى أى الدروب نسعى. كل هذا وغيره يذهب إلى ملفات رقمية على الشبكة برضانا أحيانا ولكن تلقائيا فى معظم الأحيان وبدون تدخل منا بالمنح أو المنع. هكذا استدرجتنا التكنولوجيا إلى أشهر ساحاتها وأرحبها، ساحة لا تنسى وتنزع عن مستخدميها قبل الدخول الحق فى النسيان. بمعنى آخر يكاد الناس يفقدون القدرة على بدء حياة جديدة لا تؤثر فيها سلبا أفعال كان الظن انها دخلت حيز النسيان. كان الظن ان الزمن كفيل بأن ينسى الناس ما فعلوه حين أخطأوا فى حق أنفسهم أو غيرهم. خاب ظننا فى كفاءة الزمن وأغلب الناس الآن لا يستطيعون التغلب على ماض زهدوا بعض تفاصيله أو ماض ذهبى يخشون عليه من عيون الحاسدين ومن شر ما قد يضمرون.

كثيرون لا يريدون أن يذكرهم أحد بواقعة حدثت منذ عقود أو سنوات، وكثيرون اعتقدوا أنهم أفلتوا من عذاب ضمير بسبب خطأ ارتكبوه عن غفلة أو قصد، وكثيرون استطاعوا بالفعل بناء حياة جديدة أو ثروات طائلة أو شهرة فائقة جميعها مهدد بالزوال لو أن فضوليا واحدا منهم قرر أن يطلع على تفاصيل واقعة أو أخرى من تفاصيل زمن ولى.

ما أكثر العصاميين والنجوم والمشاهير والناجحين الذين يخشون مجىء يوم تبوح فيه شبكة الانترنت ببعض الأسرار. ومع ذلك يبقى أن الثقة ما زالت كبيرة فى قدرة هذه التكنولوجيا نفسها على إدخال السكينة إلى نفوس هؤلاء واستعادة نعمة النسيان.
جميل مطر كاتب ومحلل سياسي