نشر المركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية مقالا للكاتب أحمد بيومى، تناول فيه وضع القطاع العقارى فى الصين بالوقت الراهن، وكيف ساهمت سياسات الحكومة فى تفاقم الأزمة... نعرض من المقال ما يلى.
على مدى العقود الثلاثة الماضية، ومع ارتفاع النمو السكانى بالصين، وزيادة معدلات الدخل الناتجة من النمو الاقتصادى المرتفع، تدفقت جموع السكان إلى المدن بحثا عن فرص استثمارية، وقد كان القطاع العقارى أحد القطاعات التى على استعداد كافٍ لاستقبال كل تلك الأموال، وقد ساهم ذلك فى خلق الملايين من الوظائف، وحفظ الملايين من مدخرات الأسر، للدرجة التى أصبح فيها ذلك القطاع يمثل أكثر من ربع النشاط الاقتصادى، وقد شهد القطاع العقارى بالصين طفرة بناء كبيرة مدفوعة باقتراض محفوف بالمخاطر، ومجازفة كبيرة فى تقييم أصول القطاع، لم تكن تلك المشكلة فى الأفق عندما كانت الصين تحقق معدلات نمو اقتصادى متسارعة، حيث تم التجاوز عن نسب اقتراض المطورين المتزايدة، ونسب الديون التى أثقلت كاهل ميزانيات تلك الشركات، والاقتراض الإضافى الذى تم لغرض تسديد الديون، وأعبائها، أو إعادة جدولتها.
• • •
كانت جائحة الكورونا بمثابة اختبار حقيقى لتلك الفقاعة العقارية، حيث انغلقت الصين على نفسها، وتباطأ النمو الاقتصادى، وانخفضت مدخرات الأسر الصينية، وعليه فقد انخفض الاستهلاك بالصين، ربما يفسر البعض الانخفاض فى الاستهلاك، ويربطه بالانخفاض فى تقييمات القطاع العقارى، والنشاطات المرتبطة به، والتى انخفضت بشدة، مثل: البناء، وتنسيق الحدائق، والطلاء، وبدأت تختفى، ومع وجود حالة من عدم اليقين بشأن انتشار الأزمة، أضحت الشركات، خاصة الشركات الصغيرة التى تخشى الإنفاق فى الوقت الحالى حتى وضوح الأفق.
تمتد الأزمة العقارية بالصين لتشمل القطاع الحكومى، وخاصة المحليات، والتى تعتمد فى إيراداتها على مبيعات الأراضى للمطورين العقاريين، والتى كانت تمثل مصدر إيراد أساسى لتمويل البرامج الخاصة بالبلدية، ومع انخفاض ذلك الإيراد اضطرت البلديات المحلية بالصين إلى إعادة النظر فى برامجها المحلية، فعلى سبيل المثال خفضت بلدية مدينة «ووهان» الصينية التأمين الطبى الذى تقدمه الحكومة لكبار السن بسبب التراجع فى قطاع العقارات، الذى أضر بمبيعات البلدية للأراضى، وأثر على مصدر الدخل للبلدية، الأمر الذى دفع المتقاعدين للاحتجاج أمام مبنى البلدية على تلك السياسات.
اليوم تواجه المؤسسات المالية المعروفة باسم شركات الائتمان، أو بنوك الاستثمار، والتى تقوم بجمع أموال المودعين نيابة عن الأفراد الأثرياء والشركات، أزمة كبيرة، إذ تقدم تلك الشركات حلولا استثمارية فى شكل صناديق استثمار، تقدم عوائد، أو ما يمكن تسميتها «Shadow Banking System»، حيث يقدم ذلك النظام الاستثمارى عوائد على الودائع أعلى من القطاع المصرفى، وغالبا ما تستثمر تلك الشركات أموال المودعين بالقطاع العقارى، فعلى سبيل المثال حذر شركتان صينيتان عاملتان فى مجال التأمين من أنهم استثمروا أموالا بشركة «Zhongrong International Trust» التى تدير أصولا بنحو 85 مليار دولار، وتستثمر معظمها بالقطاع العقارى، وقد فشلت شركة «Zhongrong » فى سداد العوائد المستحقة لشركات التأمين على الأموال المستثمرة، ذلك الأمر شكل حالة من الغضب لدى المستثمرين، ودفعهم للتجمهر أمام مكتب شركة «Zhongrong» فى بكين، مطالبين تلك الشركة بسداد الأموال المستحقة، وأسباب ذلك التأخر، واتهم المستثمرون الحكومة، والهيئات التنظيمية، والمطورين الذين سمحوا للمطورين العقاريين بالتوسع فى الاقتراض بشكل كبير، لتمويل إستراتيجية النمو الصينية، بأى ثمن لعقود من الزمان، قبل أن يدركوا حجم ذلك الخطر، وتدخلوا للمرة الأولى فى عام 2020 لمنع حدوث فقاعة بقطاع الإسكان، وأوقفوا تمويل تلك الشركات، خاصة أحد أكبر القطاعات العقارية بالصين، الأمر الذى تركها تعانى من نقص فى السيولة.
• • •
كان لتلك السياسات الحكومية أثر كبير خلال السنوات الثلاث الماضية حيث بدأت الشركات العقارية الصينية الانهيار واحدة تلو الأخرى، بعد التخلف عن سداد فواتير ديونها، وقد وصل عدد الشركات المتخلفة فى الوقت الحالى إلى 50 شركة من شركات التطوير العقارى الصينية، التى تعثرت فى سداد أقساط لديونها، خلال السنوات الثلاث الماضية، تعد شركة «China Evergrande» واحدة من أكبر الشركات الصينية، التى تخلفت عن سداد ديون بقيمة 300 مليون دولار فى عام 2021، وقد سبق لتلك الشركة أن اقترضت من أجل بناء مليون شقة سكنية، نجحت الشركة فى تسليم 300 ألف شقة منها، لكنها لم تستكمل بناء 700 ألف شقة المتبقية، وفى ظل حالة نضوب السيولة فقد دفع ذلك الشركة إلى التقدم بطلب للحماية من الإفلاس فى الولايات المتحدة الأمريكية، فى ظل ما تعانيه السوق العقارية الصينية من تباطؤ الطلب المحلى على العقارات، ومن ثم توقفت أسعار العقارات الصينية عن الزيادة. شركة «كانترى جاردن» هى نموذج آخر لتعثر الشركات العقارية الصينية، حيث سبق أن قدمت الحكومة الصينية تلك الشركة كإحدى الشركات الرائدة فى قطاع التطوير العقارى الصينى، لكن تلك الشركة حققت خسائر تفوق 7 مليارات دولار فى النصف الأول من العام 2023، وتواجه التحدى الأكبر فى تاريخها الممتد لأكثر من ثلاثة عقود، وهو الأمر الذى دفع شركة التقييم الائتمانى العالمية «ستاندرد أند بورز» لوصف النموذج الصينى لتحقيق النمو فى القطاع العقارى «الاقتراض لغرض البناء»، هو نموذج لا يصلح إلا إذا استمرت أسعار العقارات فى الارتفاع بشكل مستمر، وهو أمر شبه مستحيل فى قواعد الاقتصاد.
• • •
مع تفاقم تلك الأزمة، ينظر لتدخلات الحكومة الصينية أنها غير جادة، ولا تتناسب مع الأوضاع الحالية لوضع الشركات العقارية بالبلاد، حيث لم تستجب الحكومة لدعوات الشركات العقارية بإتاحة حزمة إنقاذ سريعة وكبيرة لتلك الشركات، التى تعانى من نقص فى السيولة، والتى تعتبر بمثابة قنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر فى أى لحظة، وبدلا من ذلك قدمت الحكومة تدخلات متواضعة تتمثل فى تخفيف متطلبات الرهن العقارى، وخفض أسعار الفائدة، ولا يبدو فى الأفق الحالى أنه سيكون للحكومة بصمة كبيرة فى علاج تلك الأزمة، إذ ترغب الحكومة الصينية فى معاقبة الشركات الصينية، ومحاولة وضع حد لتلك الممارسات الخاطئة، وعدم السماح بالاستمرار فى تلك السياسات حتى لا تستسهل الشركات الصينية اتباع سياسات، تذهب إلى أنه فى أسوأ الظروف لن تترك الحكومة تلك الشركات فى فخ التعثر والإفلاس.
لكن من جانب آخر، كانت تلك التطورات فى الأحداث سببا فى انخفاض مبيعات الشركات لأكبر 100 شركة تعمل فى مجال التطوير العقارى بالصين، حيث بلغت نسبة الانخفاض 33 % فى حال مقارنتها بالعام السابق، وانتقلت تلك الأزمة لمناطق أخرى بالصين، مثل هونج كونج، والتى شهدت هبوطا كبيرا لأسهم الشركات العقارية المقيدة بها، بنسبة انخفاض بلغت 21 % منذ بداية العام، وتخارج مستثمرين بنحو 7.5 مليار دولار من استثماراتهم بأسهم الشركات العقارية الصينية، ذلك الانخفاض يشكل حالة من القلق، خاصة أن صناع السياسات لا يتدخلون بالسرعة الكافية لتقديم المساندة لتلك الشركات العقارية.
النص الأصلى