اتفاق بين الكتاب والمؤرخين على إطلاق وصف عصر العمالقة على حقبة الحرب العالمية الثانية، وما تلاها، أو ما تمخضت عنه من تحولات فى كل أنحاء العالم، إلا أن العقود التالية حتى نهاية القرن العشرين قدمت للعالم نماذج من عظماء القادة السياسيين، ممن فاقت أدوارهم بعض أسلافهم من العمالقة.
وحسب المقياس الذى سوف نعتمده فى هذه السطور، وهو تأسيس أو تجديد النظام السياسى القادر على حل مشكلات المجتمع أو الدولة المعنيين، فإن أعظم من ينطبق عليهم هذا المقياس هم: الرئيس الفرنسى الراحل شارل ديجول، والزعيم الصينى الراحل دينج شياو بنج، والرئيس والزعيم الإفريقى الراحل أيضا نيلسون مانديلا، ويلحق بهم ــ ولكن على شىء من البعد نسبيا ــ كل من كونراد أديناور أول مستشار ألمانى بعد الحرب العالمية الثانية، ولى كيوان يو مؤسس سنغافورة الحديثة، والملك خوان كارلوس ملك إسبانيا الذى تنازل عن العرش لابنه الملك الحالى.
مناسبة تذكر هؤلاء القادة، والكتابة عنهم اليوم هى ندوة فى الحزب المصرى الديمقراطى الاجتماعى تطرق المتحدثون والمتداخلون فيها إلى السؤال المثار دائما فى مصر حول ما إذا كان نظام يوليو 1952 قد انتهى بوفاة جمال عبدالناصر عام 1970، أم أن هذا النظام مستمر، مع تغير السياسات من رئيس إلى آخر، حتى وإن بدا التغيير جذريا فى بعض الأحوال؟
لا ننوى الحديث بالتفصيل عن هذه النقطة الأخيرة، سيما وقد تحدثنا فيها من قبل كثيرا، وقلنا إننا مع من يعتقدون أن النظام واحد، والسياسات متغيرة، ولذا نود التركيز فى السطور التالية على حيثيات عظمة أولئك القادة الذين ذكرناهم آنفا من زاوية تأسيسهم، أو تجديدهم للنظام السياسى فى بلدانهم، بعد أن أدركوا أن جوهر المشكلة فى كل بلد هو عجز النظام القائم عن ضمان سلامة الدولة وتلبية احتياجات المجتمع، والاستجابة للمتغيرات المحلية والعالمية، وبالطبع فلن يتسنى لنا فى هذه المساحة الحديث عن الجميع، وعليه فسوف نقصر حديثنا عن الثلاثة الكبار الذين حددناهم فى العنوان.
المشهور عن الجنرال ديجول أن عظمته ترجع إلى استشعاره مبكرا خطر النازية الألمانية، واقتراحه لكيفية مواجهتها سياسيا وعسكريا، ثم رفضه الهدنة معها بعد الهزيمة العسكرية، وتأسيسه لحركة فرنسا الحرة وقيادته للمقاومة، ومشاركة الحلفاء فى تحرير البلاد، ومن ثم استعادة كرامة فرنسا، ومكانتها كإحدى الدول الكبرى، ولا جدال فى أن كل هذه وجوه وأسباب للعظمة، ولكن الأعظم منها هو إدراكه للعلة الأصلية التى تسببت فى النكبة، وإصراره على شفاء بلاده من هذه العلة، والصبر والمثابرة من أجل ذلك، حتى وإن رفضت جميع القوى رؤيته هذه، مما أدى إلى استقالته، واعتزاله العمل السياسى عام 1947، لتعود هذه القوى وترضخ لضغوط الجيش، وتقبل بعودته إلى السلطة عام 1958، فيخوض معركته المظفرة لتأسيس النظام الجديد، وهو النظام المستمر بنجاح حتى الآن، والذى يستمسك به أعتى خصوم الرؤية الديجولية من قبل، أقصد الاشتراكيين ومجمل التنظيمات اليسارية.
كان الجنرال يفهم أن قلب فرنسا ملكى، ولكن عقلها جمهورى ومن ثم يكاد المجتمع ينقسم بالتساوى بين القوى المحافظة والقوى التقدمية، وفى حالة كهذه لا تصلح الجمهورية البرلمانية نظاما لحكم البلاد، بما أنه لا يوجد حزب يحوز الأغلبية، أو حزبان كبيران يتداولان هذه الأغلبية، الأمر الذى أدى إلى تكرار ظاهرة سقوط الحكومات على فترات وجيزة، مما سبب العجز عن اتخاذ قرارات حاسمة فى اللحظات الحرجة، سيما وأن أحقاب ما بعد الحرب العالمية الأولى خلت من الشخصيات السياسية الجبارة القادرة على تغيير الاتجاه، مثل جورج كليمنسو، الذى قاد فرنسا إلى النصر فى تلك الحرب الأولى، وإذن الحل هو إقامة نظام سياسى جديد يجمع ما بين الاستقرار الذى توفره المؤسسة الملكية، وما بين التداول الديمقراطى الذى يحتاجه المجتمع، وهكذا تأسست الجمهورية الخامسة على نظام رئاسى برلمانى مختلط، ينتخب فيه الرئيس من الشعب بسلطات دستورية قوية، لمدة سبع سنوات (عدلت إلى خمس سنوات بمبادرة من رئيس ديجولى هو جاك شيراك فى أواخر القرن الماضى)، مع بقاء سلطة التشريع، ومنح الثقة للحكومة فى يد البرلمان، وبالطبع مع استقلال القضاء، ودون أى قيد أو شرط على سائر الحريات العامة، وهكذا أنقذ ديجول فرنسا من نفسها، فمنحها الاستقرار الرئاسى دون ديكتاتورية، وكفل لها التداول الحكومى دون فوضى.
بالطبع هناك مآثر أخرى كثيرة للرجل، ولكن أهمها فيما يتصل بالنظام السياسى للبلاد هو إدراكه لانتهاء عصر الاستعمار والامبراطوريات، وإقناع الشعب بهذه الحقيقة، الأمر الذى أنقذ الداخل الفرنسى ومن ثم النظام السياسى من جرائر الصراع بين الاستعماريين وبين التقدميين المدافعين عن استقلال المستعمرات.
وأما دينج شياوبنج الذى كان ضحية ماوتسى تونج زعيم الصين الأكبر وثورته الثقافية مرتين، فقد كان قد أدرك مبكرا أن المعضلة الكبرى فى بلاده هى تغليب الرطانة الإيديولوجية لماو على الاستجابة لشروط الواقع، مع اقتران ذلك بطول بقاء هذا الأخير فى السلطة حتى بلوغه مرحلة خرف الشيخوخة، وعليه فعندما أعيد دينج إلى قيادة الحزب والبلاد ــ بعد القضاء على عصابة الأربعة بزعامة أرملة ماو ــ فقد شرع على الفور فى تأسيس نظام جديد، يقوم على تداول السلطة داخل الحزب الشيوعى الصينى، ويطلق طاقات الإنتاج والتحديث على حساب الرطانات الإيديولوجية، وطبق الرجل على نفسه مبدأ تداول السلطة، فاعتزل جميع المناصب، الرسمية، مكتفيا بمنصب رئيس اللجنة العسكرية لفترة مؤقتة يستتب فيها النظام الجديد، برئيس جديد للجمهورية، ورئيس جديد للحكومة.
بالطبع لا تحتاج نتائج هذا التجديد للنظام السياسى الصينى إلى كثير من الشرح لإثبات جدواها فى نقل الصين فى غضون أربعة عقود من إحدى دول العالم الثالث إلى دولة عظمى، توشك أن تزيح الولايات المتحدة الأمريكية من مكانة القوة الإقتصادية الأولى فى العالم.
وبالطبع أيضا لسنا غافلين عن قرار الحزب الشيوعى الصينى فى مؤتمره الأخير بإلغاء القيد الدستورى على بقاء رئيس الجمهورية فى منصبه أكثر من مدتين رئاسيتين، ولكن هذا التطور لا يفرغ إنجاز دينج شياوبينج من مضمونه، ولا يلغى عظمة دوره التجديدى فى ظرف تاريخى كانت الصين تحتاج فيه إلى هذا التجديد، الذى ظل مثمرا طوال أربعين عاما.
وأما نيلسون مانديلا فقد أسس نظاما وألهم قيما تحل ــ بأقل تكلفة ممكنة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ــ معضلة التعايش بين البيض الظالمين سابقا، وبين السود الذين تحملوا الظلم والاضطهاد والحرمان والعزل قرونا طويلا، ليس هذا فقط ولكنه نظام كفل لجنوب إفريقيا أن تصبح فور استقلالها واحدة من القوى الرئيسية فى القارة، لها دورها المعترف به فى التنمية وتسوية النزاعات، إلى درجة أهلتها للترشيح من جانب كثيرين لشغل مقعد دائم فى مجلس الأمن، وذلك عندما طرح ذات مرة مشروع لإصلاح الأمم المتحدة.
أكثر من ذلك فإن مانديلا وهو الأب المؤسس كان حريصا على ألا يكرر مأساة غالبية الأباء المؤسسين للاستقلال الوطنى فى إفريقيا وآسيا، فيخلد فى السلطة حتى النفس الأخير، فتقاعد بإرادته، ليصبح التداول على منصب الرئيس مبدأ راسخا فى الحياة السياسية للبلاد.
خلاصة القول إنه فى العصر الذى انتهت فيه الفتوحات العسكرية، واكتملت فيه عملية التحرر الوطنى يصبح التحدى الأكبر هو إقامة النظام السياسى الذى يحقق للدولة المعنية التقدم والرخاء والاستقرار مع الحريات والامن القومى، ولا يكبل طاقات المجتمع أفرادا ومنظمات.