لم أنتبه إلى أننى أختار دومًا الجلوس فى آخر صف إلا منذ سنوات قليلة. فبحسب ما أتذكر، اعتدتُ منذ التحاقى بالجامعة ــ قبل ثلاثين عامًا ــ أن أتخير أبعد مكان من المنصة أو الصدارة، وأن أجلس حيث لا يرانى الآخرون. منذ ذلك الحين، قبل أن أدخل أية قاعة أو مدرج، أقلب عينىَّ فى المكان بحثًا عن كرسى منفرد فى مكان قصى، ويكون الجلوس عليه هو مبتغاى. وإذا أُجبرت على ترك مكانى القصى للجلوس فى الصفوف الأولى، أشعر أننى أوجد حيث لا أنتمى، وحيث لا أحب أن أكون. بمرور الوقت، امتلكتُ جرأةَ رفض الجلوس فى الصفوف الأولى، مهما كان إلحاح الحاضرين، وطورتُ حججًا لإقناع الآخرين بأننى لا أجلس إلا حيث أرتاح، ولا أرتاح إلى فى آخر الصفوف.
***
يبدو هذا الإيثار الصارم للمقاعد الخلفية متعارضًا مع السلوك المنطقى الشائع فى حياتنا. فالجلوس فى الصفوف الأولى يتيح للمرء متابعة ما يستمع إليه أو يشاهده، ويوفر له قربًا رمزيًا وفعليًا من المنصات التى يجلس عليها الفاعلون المؤثرون. كما أن للجلوس فى الصفوف الأولى دلالة رمزية على المكانة، فالصفوف الأولى من قاعات الدرس يحرص على شغلها الطلبة الأكثر اجتهادًا ومواظبة وقربًا من الأستاذ، والصفوف الأولى من الاجتماعات والندوات يحتلها عادة الأعلى سلطة ومكانة، والصفوف الأولى فى المسارح والحفلات يحظى بها من يدفع أكثر. وباستثناء سياقات قليلة، مثل قاعات السينما، فإن للصفوف الأولى دلالة امتياز.
***
لقد تحول «الجلوس فى الصفوف الأولى» فى معظم الثقافات إلى كناية دالة على الرفعة والمكانة والسلطة، وظهر تعبير «رجال الصف الأول»، للدلالة على امتلاك السلطة والمكانة. ولأن كراسى الصف الأول محدودة مهما بلغ عددها، فإنها تتحول إلى منطقة تنازع، يتصارع البشر فى معظم الأحيان على حيازتها، والبرهنة على أحقيتهم فى الجلوس عليها. ويبدو أن هذا التصارع حفَّز على تحول الصفوف الأولى إلى عطية من العطايا التى يحرص منظمو اللقاءات والحفلات على فرض قيود صارمة على شغلها، والتأكد من أحقية الجالسين عليها بها، إلى حد كتابة أسمائهم عليها. فلماذا أشعر حين أضطر إلى الجلوس فى الصف الأول بأننى مثل سمكة فى الهواء؟
•••
قد يُفسَّر البُعد عن الكراسى الأمامية والمنصات إلى أنه علامة على الرغبة العاقلة فى الابتعاد عن السلطة، ومن يمثلونها من الجالسين فى الكراسى الأمامية والمنصات. وقد تشبَّع عقلى وروحى بتراث ضخم من النصوص التى تحث على تحاشى الاقتراب مِنْ كلِّ ذى سلطة؛ مهما تكن طبيعة سلطته، ومهما تكن شخصية حائزها، بدءًا من الرؤساء المباشرين فى العمل، وصولا إلى أى شخص يملك القدرة على المنح والمنع، والإثابة أو العقاب. ويكفى فى هذا المقام أن نستحضر وصية كليلة لدمنة فى الحكايات الخالدة لابن المقفع: «إنى أحذِّرك صحبة السُّلطان، فإنَّ فى صحبة السلطان خطرًا عظيمًا، وقد قال العُلماء: أمورٌ ثلاثة لا يجترئ عليها إلا الأهوجُ، ولا يسلم منها إلا القليل: صحبة السلطان، وائتمان النِّساء على الأسرار، وشرب السم للتجربة، وإنما شبَّه العلماء السلطانَ بالجبَل الوعْر الذى فيه الثمار الطيبة، وهو معدِن السباع المخوفة، فالارتقاء إليه شديد، والمُقامُ فيه أشدُّ وأهول». ولعل التحذير من صحبة أهل السلطة مدفوع بمخاوف جلية على أخلاق المرء، وحرص على استقلال الرأى والعمل وفق ما يُمليه الضمير، لا السلطة. ومن ثمَّ، فإن تجنب الاقتراب من ذوى السلطة يُصبح شكلا من أشكال حماية المرء لأخلاقه وشخصه من الفساد.
***
ربما يرجع إيثار الكرسى المنفرد فى آخر الصف إلى الزهد فيما تمثله حيازة كرسى فى الصف الأول من قيمة ووجاهة، لصالح الحفاظ على استقلال الفعل والإرادة. فالجالس فى الصف الأول محكوم بقواعد المقام أكثر من غيره. وإن لم يكن ذا سلطة قاهرة فوق كل الحاضرين فعليه أن يراقب جلسته وحركاته وسكناته حتى لا يكون عرضة للنقد إن هو خالف قواعد المقام وفعل ما يثير الاستهجان. وقد يكون المحفز على الجلوس فى المقاعد الأخيرة هو الحرص على توجيه رسالة ضمنية بأن الجالس فى آخر كرسى لن ينازع عاشقى الصفوف الأولى أماكنهم ومزاياهم، وأنه لا يشكل مصدر تهديد لأحد عسى أن يتركه الآخرون وشأنه، فى مكانه القصى.
•••
يمكن كذلك فهم إيثار الصف الأخير بأنه رغبة فى الإفلات من مراقبة الآخرين، لا سيما حين يكون المرء ممن لا يُحسنون مُداراة وقع ما يستمع إليه على وجهه، ويفشل فى تطويع ملامح وجوهه بما يتلاءم مع مصالحه، وليس مع تقييمه الحقيقى لما يتلقى. ويصبح الجلوس فى نهاية الصف فى مثل هذه الحالة مهربًا من النتائج السيئة لعدم إتقان مهارة التلاعب بتعبيرات الوجوه. كما أن الجلوس فى آخر صف مهرب سحرى من عيون الراصدين؛ وهم شريحة من البشر يترصدون من حولهم، يتابعون حركاتهم وسكناتهم، ويؤولون كل فعل حسب ما يروق لهم. إن غادر المكان تابعته عيونهم، وإن تثاءب أو تمطَّع تطلعت إليه أنظارهم. هؤلاء الراصدون يجعلون الجلوس فى آخر صف، بعيدًا عن عيونهم الثعبانية، فردوسًا للجالسين.
***
علاوة على ذلك، قد يكون إيثار الصفوف الأخيرة محفَّزًا بالرغبة فى تفكيك الارتباط الراسخ بين الصفوف الأولى والسلطة والمكانة، فى مسعى لتقويض المظاهر الرمزية لتفاوت السلطة، وتأسيس شكل من أشكال الديمقراطية الجغرافية، بواسطة تقويض الارتباط بين المكان والمكانة. من هذه الزاوية، يُصبح إيثار الصفوف الأخيرة فعل مقاومة للامساواة، وانحيازًا مقصودًا للمهمشين، وإعلاءً واعيًا لمكانتهم فى مواجهة الآخرين. وهو ما يمكن أن يقوض دلالة المكان على تفاوت السلطة فى مجتمعات تُعانى ببشاعة من هذا التفاوت فى شتى مناحى الحياة.