تديين الإبادة الإسرائيلية للفلسطينيين - بشير عبد الفتاح - بوابة الشروق
الخميس 26 ديسمبر 2024 3:17 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تديين الإبادة الإسرائيلية للفلسطينيين

نشر فى : الإثنين 11 ديسمبر 2023 - 6:25 م | آخر تحديث : الإثنين 11 ديسمبر 2023 - 6:25 م
منذ تأسيس أول مستعمرة صهيونية عام 1890، ظلت الحركة الصهيونية علمانية صرفة؛ غير مصطبغة بأى صبغة دينية. حتى أن، أرى شافيت، الكاتب بصحيفة «هآرتز»، ومؤلف كتاب «وطنى الموعود»، اعتبر تلك الحركة ثورة على الدين، «الجيتو»، المعبد، الحاخامات، وحياة الخضوع والهروب إلى الكنيس لأداء الصلاة. كما أكد أن قادتها كافة، بداية من، هرتزل، ثم، وايزمان، مرورا ببن جوريون، وجولدا مائير، وصولا إلى شارون، بيريز ونتنياهو، كانوا علمانيين وليسوا متدينين، على الإطلاق. ولفت إلى أن حملات التنكيل باليهود فى أوروبا الشرقية، أوكرانيا عام 1882، ثم مولدوفا فى 1903، وصولا إلى ألمانيا النازية إبان الحرب العالمية الثانية، لم تكن تستهدف المتدينين منهم فحسب، وإنما طالت كذلك الملحدين والعلمانيين.
حتى عام 1967، ظل الصراع العربى ــ الإسرائيلى، مكتسيا سمتا قوميا بحتا. إذ يؤرخ خبراء لبداية المد الدينى فيه، بانقضاء حرب الأيام الستة، التى لجأ الطرفان خلالها إلى استحضار المتغير الدينى لتفسير مآلات الأمور. حيث عزا اليهود انتصارهم فيها إلى الدعم الربانى، فيما أرجع العرب هزيمتهم إلى الغضب الإلهى. ووفقا لما ذكره، آرثر هيرتزبرغ، فى كتابه المعنون «مصير الصهيونية»، أثارت تلك النقلة الغريبة على المجتمع الإسرائيلى، استفزاز، بن جوريون. فعندما عايش تدافع اليهود عند حائط المبكى بعد احتلال القدس الشرقية عام 1967، أعرب، آنذاك، عن مخاوفه من تداعيات ذلك الطوفان الدينى الجارف على مستقبل الحياة العامة فى إسرائيل.
مع بروز تيار اليمين الدينى المتشدد بعد حربى 1967 و1973، ثم تحالفه مع حزب الليكود، تغيرت الساحة الإسرائيلية؛ خصوصا بعدما تحول المستوطنون إلى ورقة سياسية بيد أحزاب اليمين. بمرور الوقت، غدت الانتهاكات الإسرائيلية فى الضفة مرتبطة بالرؤية التوراتية لأولئك المتطرفين. ففى اعتقادهم، تعد مدينة نابلس أهم بقاع إسرائيل، حيث جدد فيها اليهود عهدهم مع الله بعد غزو أريحا. ويشير، أرى شافيت، إلى شعورهم بأنه ما دام الأقصى ومسجد عمر، موجودين على جبل الهيكل، فلن يكون هناك خلاص إلهى لبنى إسرائيل. بينما يعتبر وزير الدفاع، يوآف جالانت، العدوان الحالى على غزة والضفة، أمرا لا مفر منه، وأن إدراك غاياته مسألة حياة أو موت لدولة الاحتلال؛ يلتمس، نتنياهو، مسوغا دينيا لتبرير ذلك العدوان. حيث يستند إلى اليمينية التوراتية؛ التى تستدعى النصوص التلمودية القديمة، بغية تأجيج المشاعر الدينية لدى الجمهور الإسرائيلى. ويزعم، رئيس الوزراء العلمانى، توسل تحقيق «نبوءة إشعياء»، التى يدعى ذكرها فى العهد القديم، بسفر إشعياء، الذى يزعم اليهود أنه أحد أعظم أنبياء العهد القديم. كما يعد سفره أحد أعمق الكتابات اللاهوتية والأدبية فى الكتاب المقدس، ويتكون من 66 إصحاحا، تتناول انتهاء شتات الشعب اليهودى، إعادة بناء الهيكل فى القدس، ونهاية الزمان. وفى خطاب متلفز يوم 25 أكتوبر الماضى، استحضر، نتنياهو أساطير «نبوءة إشعياء»، لتسويغ مواصلة حرب الإبادة ضد الفلسطينيين. وقال: «نحن أبناء النور بينما هم أبناء الظلام، وسينتصر النور على الظلام». وأضاف نتنياهو: «سنحقق نبوءة إشعياء، لن تسمعوا بعد الآن عن الخراب فى أرضكم، سنكون سببا فى تكريم شعبكم، سنقاتل معا وسنحقق النصر».
كذلك، استشهد، نتنياهو، بنص مزعوم من التوراة، يحث على الانتقام من العماليق، الذين هاجموا اليهود العزل فى الصحراء، مستعينا بالنص التوراتى: «فاذهبوا الآن واضربوا بنى عماليق، وأهلكوا‌ جميع ما لهم، ولا تعفوا عنهم، بل اقتلوا الرجال، النساء، الأطفال، الرضع، البقر، الغنم، الجمال والحمير». وناشد، نتنياهو، الإسرائيليين أن يتذكروا ما فعله عماليق بهم، حسب نصوص ينسبها إلى الكتاب المقدس. وقال: «نحن نتذكر ذلك بالفعل، ونحن نقاتل بجنودنا الشجعان وفرقنا الذين يقاتلون الآن فى غزة وحولها وفى جميع المناطق الأخرى فى إسرائيل». وتحيل كلمة العماليق، إلى قبيلة من البدو الرحل سكنوا سيناء وجنوبى فلسطين، وتعنى فى الثقافة اليهودية «ذروة الشر الجسدى والروحى». لذلك، ورد فى سفر صموئيل الأول: «اذهب وحارب عماليق، اقض عليهم قضاء تاما، هم وكل ما لهم. لا تشفق عليهم، اقتل جميع الرجال والنساء والأطفال والرضع، واقتل دوابهم كافة، وحاربهم حتى يفنوا». وكأن إسرائيل هى أهل النور الذين يجب أن ينتصروا على أهل الظلام، أى الفلسطينيين، فى السياق الجيوسياسى الحالى.
إلى حد بعيد، ينطبق مصطلح «كى الوعى»، الذى كان رئيس أركان جيش الاحتلال الإسرائيلى السابق الجنرال، موشيه يعالون، أول من استخدمه، على هذا التوصيف. حيث يشير المصطلح إلى استخدام القوة الطاغية فى الانتقام الشرس من قوى المقاومة الفلسطينية. وذلك من خلال سياسات العقاب الجماعى ضد المدنيين، سفك الدماء، تدمير المنازل على رءوس أصحابها، وإعادة الحياة قرونا إلى الوراء، استخدام سياسة الحصار، الإذلال، القضاء على مصادر الرزق، تقويض حرية الحركة، الحرمان من الخدمات الصحية، التوسع فى عمليات الاعتقال والتعذيب. حيث يبتغى جيش الاحتلال هزيمة الفلسطينيين نفسيا وإشعارهم بالعجز، حتى يستسلموا للأمر الواقع.
استنادا إلى تلك اليمينية التوراتية المختلقة، حفل التاريخ الإسرائيلى القريب بسيل من المذابح والمجازر، التى مورست بحق الفلسطينيين على مدى عقود. وعلى سبيل المثال لا الحصر، يذكر المؤرخ العسكرى الإسرائيلى، أرييه يتسحاقى، أن «القوات الإسرائيلية ارتكبت ما بين عامى 1948 و1949، أكثر من عشر مذابح كبرى» ضد سكان الأرض، لكن نادرا ما وصفت تلك المذابح على المستوى السياسى بأنها «حرب إبادة».
فى مؤلفه المعنون «الجريمة المقدسة»، يذكر، عصام سخنينى، أن خطاب الإبادة الصهيونى استخدم تحريفات التوراة وأسفارها، لشرعنة جرائمه وانتهاكاته فى فلسطين. ورغم التعارض الصارخ بين الصهيونية، بوصفها حركة علمانية، والتوراة، باعتبارها نصا دينيا، فقد استغلت الأولى الثانية، لبلوغ مآربها وأطماعها الاستعمارية فى فلسطين. وقد توارث المسئولون الإسرائيليون ذلك التوجه، إذ كان، بن جوريون، أول رئيس وزراء لدولة الاحتلال، يقول: «لا بد من تكريس استمرارية الإبادة من، يوشع بن نون، إلى الجيش الإسرائيلى». ويوشع، وفقا لمزاعمهم، هو أحد أنبيائهم الذين مارسوا الإبادة ضد الأغيار. ومن رحم اليمينية التوراتية المستندة إلى الفكر التلمودى، انبلجت تصريحات وزير التراث الإسرائيلى، عميحاى إلياهو، التى دعا فيها إلى إلقاء قنبلة نووية على قطاع غزة، وإعادة إغراقه بالمستوطنات. إذ تعبر عن تيار عريض متغلغل فى المجتمع الإسرائيلى، ويحظى بنفوذ داخل دوائر صنع القرار السياسى. ويبرر ذلك التيار، الذى تقوده التعاليم التوراتية المحرفة، العنف ضد من يسميهم «الأغيار» من غير اليهود، وطردهم مما يدعى أنها أرض إسرائيل، أو قتلهم. بحيث لا يبقى أمام أولئك الأغيار من خيار، سوى الإبادة أو التهجير.
لما كان قادة دولة الاحتلال يحاولون دائما ترسيخ الترهات والأكاذيب المتعلقة بأن جيشهم «هو أكثر جيش أخلاقى فى العالم»؛ فقد لجأوا إلى ذلك الإرث التوراتى اليمينى لتسويغ حربهم فى غزة، واعتبارها «حربا أخلاقية» تهدف إلى إبادة «شرذمة من العصابات، التى لا تفهم معنى الإنسانية». وربما كان الحاخام، مانيس فريدمان، أكثر اتساقا مع ذاته، حينما تحدث صراحة عما سماه «قيم التوراة»، أو «الطريقة اليهودية» فى الحرب الأخلاقية؛ رافضا ما نعته «الأخلاقيات الغربية» فى الحروب. حيث يرى أن الحرب الأخلاقية، هى التى تتبنى «الطريقة اليهودية»، المنبثقة من السردية التوراتية، القائلة: «دمر أماكنهم المقدسة، واقتل رجالهم، نساءهم، أطفالهم ومواشيهم». فتلك قيم التوراة التى تجعل من الإسرائيليين نورا، يشع للأمم، التى تجرعت الهزائم، بجريرة الأخلاقيات الغربية المدمرة، التى ابتدعها الإنسان الحداثى». ومن ثم، يؤكد، فريدمان، أن «الطريقة اليهودية»، هى سبيل إسرائيل الأمثل لردع الفلسطينيين، عبر قهر صمودهم الأسطورى، ودحر مقاومتهم الأبية.
التعليقات