يرى البعض أن التكنولوجيا المتقدمة باهظة الثمن وأنها ترف لا تقدر عليه الشعوب الفقيرة، التى يجب ألا تحلم بأكثر من سد احتياجاتها الأساسية. وحقيقة الأمر عكس ذلك تماما، فالشعوب الفقيرة لا تملك ترف عدم الإنفاق على التكنولوجيا المتقدمة لأنها الأمل الوحيد الذى يمكن أن يخرجها من دائرة التخلف والفقر، ويسمح لها بالقفز فوق المراحل التى مرت بها الشعوب، التى سبقتها واختصار الزمن والبدء من حيث انتهى الآخرون.
فى ظل مناخ لا يخلو من قلق وتوتر وكآبة يخيم على مصر، تظهر مبادرة من وزارة التربية والتعليم تتحدث عن استراتيجية للتعليم إحدى ركائزها توفير جهاز حاسوب «تابلت» لكل تلميذ. والمبادرة فى حد ذاتها ليست جديدة وتحدثت عنها حكومات سابقة، ولكن ظهورها هذه المرة يثير الإعجاب لسببين. السبب الأول أن الإعلان عن المبادرة يأتى فى وقت يبدو المجال العام فى مصر غير عابئ كثيرا بالمستقبل، ومنشغل بالكامل بصراع حول الماضى، وطرح مثل هذه المبادرة فى هذا التوقيت يبعث على الأمل. والسبب الثانى أن المبادرة تدعو صراحة إلى دور للقطاع الخاص كشريك للحكومة فى تنفيذ المبادرة، وهذا مدخل لا غنى عنه فى ظل أوضاع متردية للتعليم، يضاف إليها زيادة سكانية تُلقى على الموازنة العامة أعباء إضافية يحتاج معها المجتمع المصرى لكل جهود أبنائه ليس فقط لزيادة الموارد المادية، ولكن أيضا لتكثيف طاقات الإبداع والتفكير غير التقليدى الذى قد لا يتوافر بالضرورة فى المنظومة الحكومية.
•••
لا يخفى على أحد أن مستوى جودة التعليم الذى يُقدم فى مدارسنا كارثى، وكل مكونات العملية التعليمية تعانى من ضعف شديد (معلم، مناهج، أبنية مدرسية) وإذا أضفنا إلى ذلك مشكلة الدروس الخصوصية والقيم السائدة التى تفضل الشهادة على التعلم والمناخ السائد الذى يقهر الإبداع، نصل إلى أن الحلم بإصلاح التعليم هو من قبيل الخيال العلمى.
وبما أن الخيال العلمى هو البديل الوحيد فدعونا نحلم بأن كل طفل فى المناطق الفقيرة والمحرومة (قبل المناطق الغنية) معه تابلت وأن هناك مناهج تعليمية تم تصميمها بشكل جذاب تجعل من التعلم متعة، وتجعل من التعلم وسيلة لتنمية التفكير وتشجيع الإبداع. ولما كان الخيال هو أسهل وسيلة للهروب من الواقع المؤلم فدعونا نمعن فى التخيل لنتصور أن مصر بحاجة إلى 3 ملايين «تابلت» سنويا، وأن هذه الأجهزة صنعت فى مصر وأن هناك سوقا كبيرة لتصدير هذه الأجهزة لدول أخرى. وأن المنظومة التعليمية توقفت عن طباعة الكتب المدرسية وترتب على ذلك انخفاض فى واردات مصر من الورق المستورد ومن الأحبار الضارة بالبيئة.
ولما كان الخيال العلمى بلا سقف يحده فدعونا نضف أن المناطق الفقيرة التى انتشر بها التابلت المصرى ظهر بها عدد من المتفوقين فى العلوم والرياضيات الذين استطاعوا استيعاب مقررات السنة الدراسية فى أشهر قليلة ومضوا دون أن توقفهم عوائق إدارية لاستيعاب مقررات السنة الدراسية التالية، كما ظهر بها مراكز للتدريب على استخدام الكمبيوتر لاقت إقبالا فاق كل التوقعات لأن الأطفال أثروا على آبائهم وأمهاتهم وتحولت أسرهم إلى أسر تكنولوجية. وعلى التوازى، تم تزويد المناطق الفقيرة والمحرومة بإنترنت فائق السرعة، وأصبح أصحاب المشروعات الصغيرة قادرين على تسويق وتصدير منتجاتهم دون أن يضطروا للانتقال إلى العاصمة، وأصبحت المعلومات الداعمة للزراعة الحديثة فى متناول أصابع الفلاح المصرى البسيط بعد أن كانت حكرا على الكبار، واكتشفت سيدة أمية أن بإمكانها استعارة «تابلت» أحد أبنائها أو بناتها لاستخدام برنامج لمحو الأمية لا يتطلب منها الانقطاع عن العمل للذهاب إلى مركز محو الأمية. ومن ناحية أخرى، أصبح جزء كبير من التبرعات التى كانت تذهب لبناء دور العبادة والمدارس تذهب لتمويل هذا المشروع، وتبارى رجال الأعمال وميسورو الحال فى التعهد بتحويل القرية التى نشأوا بها أو الحى الذى ولدوا به إلى بقعة إشعاع معرفى.
إن معظم الخيالات العلمية تحولت إلى واقع معيش، فلماذا لا يتحول التعليم الإلكترونى فى المناطق الفقيرة والمحرومة إلى واقع معيش؟
•••
عندما ظهرت السيارة كاختراع تجريبى نبه بعض «الحكماء» إلى خطورة هذا الاختراع لأن الشوارع فى هذا الزمن كانت ضيقة وحذروا من خطورة تصنيع السيارات على نطاق تجارى لما ستسببه من ضحايا نتيجة اختلاط السيارات بالمارة. ولو أنصت الناس إلى صوت الحكماء لما كان هناك سيارات، وبدلا من التخلى عن الفكرة فقد استبدلوا الشوارع الضيقة والعقول الضيقة أيضا بأخرى أكثر اتساعا.
لا يساورنى شك فى أن مشروع «تابلت لكل تلميذ» سيلاقى هجوما من «الحكماء» الذين سيستحضرون أسلافهم ممن طالبوا بإيقاف تصنيع السيارات، وقد تتلاقى أفكارهم بحسن نية بأصحاب المصالح من مافيا الدروس الخصوصية، ومافيا الكتب الدراسية، ومافيا المناهج التقليدية الذين يشعرون دون شك بمخاطر المشروع على مصالحهم الشخصية. وهذا هو التحدى الحقيقى الذى نواجهه ليس فى مجال التعليم فقط وإنما فى مجالات عديدة.
يقول البعض على استحياء اننا يجب أن نفكر خارج الصندوق لحل مشكلاتنا والحقيقة أننا بحاجة للتفكير «خارج القفص»، ولا أقول خارج الصندوق. فإن القيود التى تكبل العقل المصرى تمنعه من توظيف الخيال فى إنتاج إبداعات جديدة لحل المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التى تواجهه. ويظل الإصرار على إعادة استخدام أساليب قديمة فاشلة بواسطة أشخاص جدد هو سيد الموقف.
•••
من وجهة نظرى فإن عناصر النجاح الحرجة لهذا المشروع تكمن فى: 1) الرؤية المتكاملة باعتباره مشروعا تنمويا له أهداف تتجاوز التعليم إلى تحقيق نقلة نوعية فى المناطق الفقيرة والمحرومة وإلى خلق صناعات جديدة ومهن جديدة. 2) الاستمرارية التى لا يعوقها أصحاب المصالح أو تغير المسئولين. 3) المشاركة المجتمعية من القطاع الخاص فى التنفيذ والمجتمع المدنى فى الرقابة. 4) الاستفادة من تجارب دول نامية أخرى.
كلمة أخيرة، أرجو أن تؤخذ مأخذ الجد، إن معظم المشروعات التى نفذت فى الماضى فى مصر تتعثر بسبب غياب أو ضعف مكون المتابعة والتقييم، وعادة ما تُسند هذه المهمة للقائمين على التنفيذ أو لإدارات قريبة منهم، وبالتالى فإن غياب الموضوعية وتعارض المصالح والمجاملات والممارسات الفاسدة تغطى على أى قصور، ولا تسمح بتصحيح مسارات المشروعات أو تدارك الأخطاء أو حتى ضمان عدم تكرارها. وإذا أردنا أن نستفيد من أخطائنا فالواجب يُحتم تصميم مكون للتقييم والمتابعة لمشروع تابلت لكل تلميذ منذ بداية المشروع، يستند إلى مؤشرات موضوعية لقياس النجاح، وأن يُعهد إلى جهات مستقلة عن الوزارة بمسئولية إصدار تقارير لتقييم المشروع بصفة دورية مع الالتزام بأقصى درجات الشفافية والمهنية. ولا شك أن قيام مؤسسات المجتمع المدنى العاملة على المستوى المحلى بهذه المهام هو تجربة جديرة بالاهتمام، لو أقدمت عليها وزارة التربية والتعليم فستعطى نموذجا للشراكة بين الحكومة والمجتمع المدنى كما ستقدم تجربة عملية لتطبيق اللامركزية والمساءلة الشعبية التى نتحدث عنها كثيرا ولا نراها.