لنا فى مصر تجربة سابقة، فيها درس كبير لصانعى السياسات الاقتصادية وخاصة سياسة سعر الصرف. نقصد ما قامت به (حكومة عاطف عبيد) خلال فترة 2000ــ2003 بإحداث تحرير جزئى ملموس لسعر الصرف عبر موجات متتالية زمنيا لرفع سعر الدولار مقوما بالجنيه، بحيث بلغت نسبة الانخفاض فى قيمة الجنيه نحو 50% عبر الفترة المذكورة.. وتفاعلت معها دورة اقتصادية ركودية استمرت حتى 2005، أطلق عليها إعلاميا (ركود الأسواق). ثم إن الدورة الركودية ذات الأسباب العميقة ولكن المتأثرة مباشرة بخفض قيمة العملة المحلية ازدادت انتشارا وتعمقا.
وقد جرت بعد ذلك محاولة إنعاشية اعتبارا من عام 2004 عبر ما سمى (حكومة رجال الأعمال). وكان ما كان من ارتفاع فى القيمة الاسمية للناتج المحلى الإجمالى ومعدل نموه حتى عام 2007-2008 حين بلغ ذروته بمعدل 7% تقريبا، وبعدها أخذ فى التباطؤ مرة أخرى حتى قامت ثورة 25 يناير 2011. وينبغى الأخذ فى الاعتبار أن معدل النمو الاسمى المرتفع حينذاك، لم يترتب عليه – ولم يكن متضمنا فيه أصلا – إحداث تغير جذرى فى معادلة توزيع الثروات والدخول فى المجتمع المصرى.
وهكذا فإن الأزمة الركودية التى وقعت مطلع القرن الحالى (2000ــ2005) جرى التحكم فيها جزئيا ونسبيا خلال فترة 2005ــ2008، بالمحاولة الإنعاشية ــ الظاهرية على كل حال. وتم ذلك من خلال استمرار وإعلاء موجة التوسع فى الإنفاق الحكومى، البادئة منذ مطلع الثمانينيات، على عدد من مشروعات البنية الأساسية والإسكان، أى فى القطاعات المسماة «غير الداخلة فى التجارة الدولية»، من خلال ممارسات شابها الفساد الكبير فى الصفقات المعقودة مع المقاولين والشركات المنفذة والمكاتب الاستشارية فى نطاق القطاع الخاص، بالتشارك مع بعض من أعلى مستويات الحكومة، لاسيما بمجال تخصيص الأراضى فى «المناطق العمرانية الجديدة»، كما هو معروف. وارتبط بذلك، خلال الفترة 2004ــ2010 بالذات وحتى قيام ثورة يناير 2011، التوسع الموازى فى التمويل الائتمانى بشروط ميسرة لحفنة من رجال المال والأعمال الكبار، فيما عرف بظاهرة (القروض غير المضمونة). وأعطيت الأولوية فى ذلك لبعض القطاعات غير ذات المردود الاقتصادى الكلى الأعلى نسبيا، من وجهة النظر الهيكلية بالذات، وفى مقدمتها كل من قطاع الاتصالات، وقطاع العقارات (من خلال رافعة الإنشاء والتشييد: القاهرة الجديدة...إلخ ) وسميت لذلك بالقطاعات النشيطة.
وبالتوازى مع ذلك، جرى العمل على تكديس حجم مرتفع من الاحتياطى النقدى بالعملات الأجنبية لدى البنك المركزى لمواجهة الطلب على الدولار فى صفقات الاستيراد وللدفاع عن سعر التعادل الهش للجنيه أمام الدولار. ولكن تم توجيه الاحتياطيات للاستثمار فى أسواق السندات الدولية لتحصيل عائد ريعى منتظر، دون توظيفه فى دورة الإنتاج المحلية وبما كان يمكن أن يخدم عملية التنمية «الغائبة» حينذاك.
***
وعودة مرة أخرى إلى تجربة (حكومة عاطف عبيد) ــ أواخر القرن المنصرم وأوائل القرن الجديد ــ والدروس (السلبية) المستفادة منها. فقد اعتبرت سياسة الصرف الموجهة لخفض قيمة العملة المحلية، محور الارتكاز لسياستها الاقتصادية عامة، من خلال ما يمكن أن نسميه التعويم بالتخفيض Devaluation وأدى ذلك إلى تفاعل الآثار السلبية لارتفاع تكلفة الإقراض للمشروعات وخاصة بالعملات الأجنبية، وارتفاع معدل التضخم السعرى بفعل الانخفاضات المتوالية فى قيمة العملة المحلية مقابل الدولار، وعمّق بالتالى أزمة «ركود الأسواق»، وحدث فى نهاية الأمر انخفاض فى معدل نمو الناتج المحلى الإجمالى اعتبارا من عام 2000/2001 بعد التحسن النسبى الذى كان قد وقع خلال فترة 1995ــ2000.
ويشار هنا إلى ارتفاع سعر الفائدة بين البنوك إلى نحو 17% فى أوائل عام 2000 وانخفاض معدل النمو للائتمان الممنوح للقطاع الخاص إلى نحو 7.4% فى عام 2000/ 2001 مقابل نحو 24.6% عام 1998/99.
ولكن ربما يكون من الحكمة أن نشير أيضا إلى أن (حكومة عاطف عبيد) تلك، لم تلجأ عموما إلى التحرير الكامل لسعر الصرف أى لم تذهب إلى حدّ (التعويم الحر) للعملة المحلية، وإنما اتبعت مع نهاية عام 2000 وبداية 2001 سياسة للصرف يسميها الاقتصاديون «التعويم المدار» managed floating، بمعنى السماح بارتفاعات أو انخفاضات متذبذبة لسعر الصرف ضمن هامش معين يتحكم فيه، أو يديره، البنك المركزى والسلطات النقدية وجهات المالية العامة من خلال الأدوات المجربة للسياسة النقدية والمالية. تشمل هذه الأدوات – من بين أمور أخرى – التدخل فى السوق المفتوحة وتحديد نسبة الاحتياطى لدى البنوك وهوامش أسعار الفائدة فى نطاقات معينة، بالإضافة إلى محاولة تعقيم النقود عبر امتصاص السيولة من خلال مبيعات أذون الخزانة والسندات الحكومية...إلخ.
وإنّا لنعلم أن السياسات الاقتصادية لنظام مبارك خلال فتراته المتعاقبة حتى ثورة يناير2011 التزمت التزاما صارما بثوابت (التخريب الاقتصادى المتعمّد) ــ إذا صح هذا التعبير ــ من خلال: المضىّ فى خصخصة المنشآت الإنتاجية للقطاع العام تحت مسميات مختلفة مثل الدعوة إلى الاكتتاب العام، بالإضافة إلى التحيز الضريبى لكبار الممولين مع تساهل معهم فى الإقرارات الضريبية، وإهمال القطاعات الإنتاجية ذات الأولوية لصالح القطاعات المدرة للعائد السريع والريع النقدى، وغير ذلك كثير. إلا أنه كان يجرى فى نفس الوقت نوع من العمل لمحاولة – فاشلة فى التحليل الأخير بدليل وقوع حدث الثورة ــ وذلك من أجل التحكم بقدر الإمكان فى التداعيات الاجتماعية المحتملة للسياسات الاقتصادية الخرقاء. ومن ذلك على سبيل المثال: فرض هامش أرباح للسلع المستوردة فى حدود 35% فى مرحلة ما، والإصرار على الإبقاء على سياسة تسعير الأدوية وفق الآلية المعتمدة فى وزارة الصحة بهذا الشأن وعدم السماح بالمساس بها تحت أى ظرف، وبرمجة خفض الدعم السلعى والخدمى على مدى زمنى ممتد نسبيا.
***
وإلى جانب ذلك، ظلت سياسة (التعويم المدار) للعملة المحلية، سياسة معتمدة بشكل عام حتى ثورة يناير وما بعدها لتجنب الانفلات المفرط للتضخم فى اقتصاد معتمد بدرجة عالية على الواردات وفى ظل ارتفاع شديد للمكون الاستيرادى فى الناتج المحلى الإجمالى. ثم جرى العمل وفق ما يسمى (الربط الزاحف) بين الجنيه والدولار بعد يناير 2011 حتى تم إعلان التعويم الحر مؤخرا فى أكتوبر 2016.
لم يجرؤ أحد إذن على تغيير مفاجئ وجذرى فى سياسة الصرف بخفض مبالغ فيه لقيمة العملة المحلية، من جهة أولى، أو فى سياسة الدعم بتقليص جذرى لمخصصات الموازنة العامة الموجهة لهذا الغرض، من جهة ثانية، ربما نظرا لآثارهما القابلة للتوقع سلفا، وخاصة من حيث: الارتفاع الكبير نسبيا فى معدلات التضخم فى اقتصاد يعانى من الاعتماد الزائد على الواردات.
ومن الآثار القابلة للتوقع أيضا، والتى يجب التحوط من حدوثها الآن، وفق التجربة الاقتصادية لنظام مبارك خلال السنوات العشر الأخيرة من حكمه بفترتيها (2000ــ2005، 2000ــ2010: انخفاض الميل للاستهلاك الجماهيرى Mass consumption بفعل ارتفاع الأسعار، ومن ثم تراخى قوة الدفع الناجمة عن آلية الطلب الفعلى فى اقتصاد منكمش، سيّما وأن هذا الاقتصاد لا يملك، فى المقابل، قدرة ذاتية عالية على تفعيل سريع لقوة الطلب على الصادرات بفعل انخفاض المرونة السعرية للإنتاج الموجه للتصدير. وتكون من النتائج المباشرة المحتملة لكل ذلك، ارتفاع معدلات البطالة، وعلى الأقل عدم خفضها بصورة ملموسة، وتزايد معدلات «نقص التشغيل» للطاقات الإنتاجية وارتفاع نسب الطاقة العاطلة idle capacity.
***
وفى ضوء دروس التجربة «المباركية» المشار إليها، يمكن أن يزيد احتمال توقع حدوث موجة من (التضخم الركودى) خلال المرحلة القادمة، إذا استمرت وتفاعلت السياسة الاقتصادية للحكومة الحالية بالتعويم الحر والخفض السريع للدعم، مع ما يمكن من وقوعه من الآثار ذات الخطر البالغ ــ لا قدّر الله ــ على مسيرة السلام الاجتماعى التى يقودها وينتهج سياساتها العامة السيد رئيس الجمهورية عبدالفتاح السيسى.
فما بال هذه الحكومة (الرشيدة!) القائمة بين ظهرانينا اليوم تبدو عليها علامات (الانبطاح) ــ إذا صح هذا التعبير الذى قد لا يكون مناسبا للمقام ــ أمام أية هجمة لرجال الأعمال والتجار الكبار فى كل مجال وبالنسبة لكل سلعة تقريبا، دون أية مقدرة حقيقية على كبح ارتفاعات الأسعار ولجْم الميل الشره إلى تراكم المكاسب المالية للبعض اعتمادا على تعاظم قوة الميول الاحتكارية. وما للتوازنات و(الموازين) السلعية قد أفلتت من كل عيار، فى: السكر، الزيت، الأرز، السماد، الأسمنت والحديد، ودع عنك الدواجن واللحوم الحمراء، وغيرها، بل والدواء، ولا تنس تكاليف التعليم الخاص والصحة «الخاصة».
أفلا يحق لنا إذن أن ندعو – بعد كل ما سبق – إلى الرجوع إلى (التعويم المدار) بدلا من (التعويم الحر) للعملة المحلية من أجل تجنب الآثار السلبية المحتملة، مع اتباع سياسات مساندة لازمة من قبيل ضبط حجم الواردات، والسير على طريق تصنيع بدائل الاستيراد؟.
وندعو كذلك إلى الرجوع عن تسريع برنامج خفض الدعم السلعى والخدمى، بالعمل على تهدئته وإعادة النظر فى جداوله الزمنية، حتى نتجنب الآثار المحتملة أيضا على الكيان المجتمعى المستقر.