صباح يوم الأحد الماضى قرأت مقالين فى «الشروق» و«المصرى اليوم» للدكتور أحمد عبدربه والدكتور حسام بدراوى، يدعوان فيهما إلى تطوير نظام الحكم الحالى بتوسيع دائرة المشاركة، ليس بالمعنى الديمقراطى المتعارف عليه، ولكن لتحسين الأداء، بتوفير شروط أفضل لطريقة صنع القرار، وبمعنى آخر هما اجتهادان لترشيد الديكتاتورية.
الدكتور عبدربه فضل وصف ما يطمح اليه بتعبير الديكتاتورية التشاركية، كما ذكر فى مقال سابق.
والدكتور بدراوى دعا إلى حسم تردد النظام المصرى منذ سنوات طويلة بين ما وصفه بنصف الديكتاتورية ونصف الديمقراطية، الأمر الذى أدى ــ حسب ما فهمته أيضا ــ إلى غلبة سلبيات النظامين على إيجابياتهما.
من أجل هذا الغرض نفسه كان كاتب هذه السطور قد تطرق فى مقالين سابقين إلى تشخيص الازمة المزمنة فى حكم مصر، والى اقتراح الحلول لها، المقال الأول بعنوان «السلطوية أفضلها ما انتهى فى الوقت المناسب»، وجاء الثانى تحت عنوان «الحل الوسط التاريخى».
وفى تقديرى أن الدكتور عبدربه، والدكتور بدراوى انطلقا من المعطيات نفسها، وأول هذه المعطيات هو أن الدولة العميقة فى مصر بقيادة المؤسسة العسكرية هى أقوى من جميع الفاعلين السياسيين مجتمعين، فكيف وهم متفرقون؟ لكن ثانى المعطيات يقول إن الدولة العميقة وحدها لم تستطع فى الماضى، ولن تستطيع فى المستقبل أن تحل مشكلاتها، ولا مشكلات المجتمع من باب أولى، لأن هذه وتلك ــ وهنا ثالث المعطيات ــ تعقدت أكثر بزيادة السكان، وإهمال تعليمهم وتدريبهم، وتدهور مستوى الصحة العامة، ولأن الأوضاع الاقتصادية ازدادت سوءا بإهمال الصناعة، مع ضرورة تخصيص الموارد المحدودة لإنتاج الكهرباء للاستخدام الاستهلاكى أكثر منها للاستخدام الإنتاجى، أو بزيادة الاعتماد فى الغذاء على الخارج، كما أن البيئة الإقليمية تغيرت على حساب مصر، وخاصة فى حوض النيل، إذ أصبحت إثيوبيا قادرة على ما لم تكن قادرة عليه اقتصاديا وتكنولوجيا وسياسيا قبل عشرين سنة، فضلا عن تغير موازين القوى فى الشرق الأوسط لتتوزع على إسرائيل والسعودية والخليج وايران مضافا اليها تركيا، والدول الأجنبية صاحبة النفوذ فى العراق وسوريا، بما يخصم من الرصيد المصرى القابل للزيادة فى كل لحظة بالموقع والتاريخ، وطاقات المجتمع والدولة إذا أحسن توظيفها.
أما رابع المعطيات فهو إدخال مصر دائرة المستهدفين بالإرهاب الدينى، وليست العمليات الإرهابية الحالية فى سيناء، والمحافظات الأخرى بما فيها القاهرة، إلا موجة جديدة، وإن تكن أكثر تواترا وإيلاما، سبقتها موجات فى سبعينيات، وثمانينيات، وتسعينيات القرن الماضى، بل وفى بدايات القرن الحالى، وكلها موجات نابعة من مصدر واحد هو رفض الدولة الوطنية المدنية.
وخامس المعطيات، وربما أكثرها أهمية، أنه لم يحدث فى تاريخ مصر أن ثورة جاءت بقوة من خارج الدولة إلى السلطة، بمعنى أن الثورات المصرية تدفع إلى التغيير من داخل النظام، فى أحسن أحوالها.
قلنا إن الدولة العميقة فى مصر بقيادة المؤسسة العسكرية لم تنجح وحدها فى الماضى، وإلا لما كنا وصلنا إلى ما وصلنا اليه قبل يناير 2011، وبعده، ولا يتوقع لها النجاح وحدها فى مواجهة كل التحديات التى سبق تعدادها توا، وهذا ما يدفع من لا يفكرون بالأمانى وحدها، مثل الدكتور أحمد عبدربه، والدكتور حسام بدراوى إلى البحث عن بديل يتأسس على المعطيات الكبرى فى هذه الحقبة من تاريخ مصر.
المفهوم إجمالا أن هذا البديل يتمثل فى صيغة عملية ومقننة للمشاركة بين الدولة العميقة والمجتمع، صيغة تتيح لهذه الدولة العميقة الانتفاع بموارد وطاقات وخبرات المجتمع، على أسس وطنية موضوعية، وليس على أسس الولاء الفئوى أو الشخصى، ولا على أساس التسليم مقدما بامتيازات سياسية أو اقتصادية خارج القانون والدستور لمؤسسة أو جماعة، بحيث تتوافر الضمانات القانونية، وتتراكم تقاليد الشفافية والمساءلة، والثواب والعقاب والمنافسة الحرة، فى الاقتصاد، والتعليم والبحث العلمى، والصحة وسائر المرافق الإنتاجية والخدمية، على أن تختص الدولة العميقة بمهامها الكبرى، فى حفظ السيادة والوحدة الوطنية والإقليمية لمصر، وإدارة الملفات الكبرى فى الأمن القومى، والعلاقات الدولية الرئيسية.
كيف يمكن عمليا الوصول إلى هذا الحل الوسط التاريخى بين الدولة العميقة وبين المجتمع فى مصر؟
يبدو للبعض فى هذه اللحظة أن هذا السؤال يشبه السؤال الذى وقفت فئران كليلة ودمنة حائرة أمامه، أى سؤال من يعلق الجرس فى رقبة القط؟، فمن الناحية النظرية تبدو جيدة جدا فكرة تعليق جرس فى رقبة القط، لتسمع الفئران رنينه عندما يتحرك القط، فتهرب قبل أن يتمكن هذا من اصطيادها، ولكن عند التطبيق تبدو الفكرة مستحيلة التنفيذ، لأنه لا يوجد فأر يستطيع أن يعلق الجرس فى رقبة القط، ولكن لحسن الحظ أن البشر رزقوا عقلا، وحسا أخلاقيا، وقدرة على التواصل والحوار، فالعقل يقود إلى التعلم من دروس الماضى، وتجارب الحاضر، والحس الأخلاقى يقود إلى الشعور بالواجب، والتواصل والحوار يقودان إلى الإقناع والاقتناع.
وإذا كان علينا أن نسلم أن الدولة من جانبها ليست مقتنعة حتى الآن، ولم تكن مقتنعة فى يوم من الأيام بضرورة هذا الحل الوسط ولا جدواه، فلابد أن نسلم أيضا أن المجتمع لم ينتج بعد التنظيمات والمؤسسات القادرة على دفع الدولة فى هذا الاتجاه، بمعنى أن مصر تمتلك من الكفاءات الفردية فى جميع المجالات من تباهى بهم الأمم، ولكنهم لا يمثلون إلا أنفسهم، ومن ثم فهم يستوعبون فى الدولة العميقة فور جلوسهم على مقعد المسئولية.
لكن الإنصاف، والموضوعية، والشعور بالواجب نحو الأجيال التالية، كلها تحتم الاعتراف بأن مسئولية الدولة أكبر، ومن ثم فإن واجبها فى توفير شروط مشاركة ناجحة بينها وبين المجتمع أكبر بكثير، إذ إن الدولة كانت ولاتزال حريصة على إجهاض أية تنظيمات مجتمعية يمكن أن تتأهل لهذه المشاركة، وتلهم غيرها على هذا المسار، فالدولة تفعل كل ما فى وسعها لإضعاف الأحزاب السياسية الواعدة، وكذلك النقابات المهنية والعمالية، بل والاتحادات الطلابية، والجمعيات الأهلية، وسائر منظمات المجتمع المدنى، والحركة التعاونية، والغرف التجارية والصناعية.
سيتساءل المتشائمون: كيف يطمح مثلك ومثل الدكتور عبدربه، والدكتور بدراوى، وغيركم إلى ديكتاتورية تشاركية، أو حل وسط تاريخى، بينما يقول آخرون ــ عن حق ــ إن الدولة حاليا لم تكتف بتعقيم المجتمع، ولكنها تتجه إلى تعقيم بعض مؤسساتها الرئيسية، كالقضاء نفسه والصحافة والإعلام، وذلك بعد أن نزعت الدسم من المؤسسة البرلمانية.
ردا على هؤلاء تقول الحكمة لا شىء مثل النجاح يثبت صحة فكرة سياسية، ويثبت خطأ أخرى، فإذا نجحت السياسة الحالية فى حل مشكلات مصر الوجودية بالغة الضخامة والخطر، فبها ونعم، ولا حاجة للمشاركة فى هذه المرحلة، أما إذا استمر التعثر، واكتشف الكل أو البعض أن هذا الطريق مسدود، فستأتى لحظة مواجهة الحقيقة والمصير، وليست مصر، ولن تكون أسوأ من نيجيريا مثلا.
سيتساءل آخرون : وماذا عن موقع الإرهاب والتطرف الدينى فى هذا الحل الوسط التاريخى؟
هنا أذكر بتجربة الأوروبيين مع الشيوعيين بعد الحرب العالمية الثانية، فالأحزاب الشيوعية لم تكن تؤمن لا بالبرلمانات، ولا بالانتخابات ولا بالدولة الوطنية، ولكنها كانت تؤمن بالثورة، وبوحدة الطبقة العاملة على حساب الدول الوطنية، وكان غلاة اليمين الأوروبى يقولون إن الشيوعى الجيد هو الشيوعى الميت، ولكن بعد مأساة الحرب العالمية التى انخرط الجميع فى مقاومة النازية فى أثنائها، اقتنع الشيوعيون، والديموقراطيون بإمكان التعايش من خلال المشاركة، فتخلت الأحزاب الشيوعية عن عقيدة الثورة، وعقيدة الوحدة الأممية، وقبلت الاحتكام إلى الناخبين، وكان ذلك شرط الحكومات القائمة للسماح للشيوعيين بالعمل السياسى، ومع ذلك فقد ظلت هذه المشاركة مقيدة من الدولة العميقة، بمعنى أن الشيوعيين فى البرلمان، أو حتى فى الحكومة، لم يكن مسموحا لهم بعضوية لجان الأمن القومى، والدفاع، والمخابرات.
قياسا على هذه الخبرة نجيب عن السؤال السابق، فنقول إنه ليس المطلوب مصالحة وطنية كما يردد البعض مع من لم يحمل السلاح من حركات وأفراد «الإسلام السياسى»، فبعض السلفيين مثلا لم يحملوا السلاح، ولكنهم لا يؤمنون بالوحدة الوطنية المصرية بقدر ما يؤمنون بالأممية الاسلامية على حساب المصريين غير المسلمين، ولكن المطلوب هو إعادة بناء المجال السياسى من أجل الوصول إلى المشاركة، (ولو مقيدة مؤقتا) على نحو ما شرحنا فى حالة الشيوعيين الأوروبيين، على أن تقوم إعادة البناء هذه على أسس الوطنية المصرية، والمواطنة فى دولة مدنية، ونبذ العنف والإرهاب نهائيا، والاحتكام إلى الناخبين.
بالطبع لن تؤدى عملية إعادة بناء المجال السياسى إلى اختفاء العنف والإرهاب كلية بين يوم وليلة، وستبقى بعض التنظيمات العنيفة، والرد هنا أيضا مستلهم من التجربة الأوروبية، فقد بقيت تنظيمات يسارية تمارس الإرهاب فى أوروبا حتى نهاية سبعينيات القرن الماضى، ولكنها كانت هامشية، ثم تلاشت، فيما ظل التيار الرئيسى لليسار الشيوعى منخرطا فى المشاركة السياسية السلمية، حتى انهيار المعسكر الشيوعى كله، والشيوعية نفسها، ليبقى منها مبدأ دولة السوق الاجتماعى.
وفى تقديرى فلن يبقى من الحركة السياسية الإسلامية «المنظمة» فى نهاية المطاف سوى الحس الأخلاقى السلمى.
سيقول المراوغون، لكن تلك أوروبا، فهل نحن مثلها؟ والإجابة المفحمة هى أن الدستور، والبرلمان، والأحزاب، والدولة الوطنية، والقومية، والبنوك، والصحيفة التى تقرؤها الآن... إلخ كلها أفكار وممارسات أوروبية، فلماذا لا نرفض من أوروبا إلا ما يرشد الديكتاتورية، ويقربنا من الديمقراطية والعدالة والمواطنة؟!