يمكن فهم الوتيرة المتسارعة للتقارب المصرى ــ التركى الراهن، ضمن سياق «الإقليمية الجديدة»؛ التى تقتضى تغليب مقاربات التفاهم والتعاون، على بواعث التوتر والصدام.
شأنها شأن دول الجوار الإقليمى قاطبة، لم تفوت تركيا فرصة استغلال الفراغ الجيواستراتيجى الناجم عن انهيار النظام الإقليمى العربى، وأفول العمل العربى المشترك. فلقد نجحت أنقرة فى ترسيخ تموضع عسكرى طويل الأمد، بعدة دول عربية، عبر إقامة قواعد عسكرية، ومباشرة التدخلات العسكرية فى تلك الدول.
رغم تنوع المبادرات الدولية والمشاريع الإقليمية الهادفة إلى التعاون، لا تزال منطقتنا تفتقر إلى منتدى مستدام للحوار الاستراتيجى البناء، أو إطار للأمن الإقليمى. وفى أصقاع شتى من العالم، تسنى لتلك المنتديات والأطر، على غرار «منظمة الأمن والتعاون فى أوروبا» و«رابطة أمم دول جنوب شرق آسيا»، تعزيز التواصل حتى بين الخصوم، والمساعدة فى منع التصعيد وخفض التوترات.
على قسوتها وبشاعتها، تتيح المأساة الفلسطينية فرصة ذهبية لتأسيس نظام أمنى إقليمى، أكثر قوة واستدامة؛ يضمن الأمن والاستقرار، يحمى مصالح الجميع، ويحصن الدولة الوطنية ضد مخططات التقسيم الغربية، ومشاريع إعادة هندسة الإقليم، وفقا لأهواء القوى الكبرى. كما يلتمس السبل الكفيلة بالحفاظ على وحدة وتماسك دول المنطقة، ودعم لحمتها الوطنية، علاوة على تعزيز توازن القوى الإقليمى.
بمقدور النظام الأمنى الإقليمى المستدام، اعتماد أنماط جديدة من القيادة التعاونية، وتبنى بدائل ناجزة لتوازن القوى التنافسى، الذى يخيم على العلاقات الإقليمية منذ عقود. وفى وسع ذلك النظام بلورة تعاون إقليمى أكثر شمولا، يقوم على تحسين الاتصال، التنسيق من أجل تخفيف حدة التوترات وإدراك مغانم اجتماعية، اقتصادية وأمنية متبادلة للأعضاء. من خلال الاتصالات المنتظمة وبناء الثقة تدريجا؛ بما يحول دون تحول الإقليم إلى ساحة جديدة لتنافس القوى العظمى. ويمكن لمصر وتركيا، بمساعدة أطراف إقليمية أخرى، مثل الأردن ودول الخليج، إطلاق عملية ممنهجة فى هذا الاتجاه، بما يفتح الباب أمام مشاركة أوسع فى قادم الأيام. ولعل «منظمة غاز شرق المتوسط»، تمثل بداية ناجعة فى هذا المضمار.
لما كانت المنافسة سنة كونية بين القوى الإقليمية والدولية؛ فإن براعة تلك القوى تكمن فى إدارة تلك المنافسة، على النحو الذى يكبح جماحها، ويحول دون تحولها إلى صدام، أو صراع.
من هذا المنطلق، يمكن لمصر وتركيا صياغة استراتيجيات تفاهمية لإدارة المنافسة بينهما، عبر تبنى مقاربات جيواقتصادية، واعتماد نهج التنسيق الاستراتيجى، بغية احتواء الخلافات، ومنع تفاقمها، بما يساعد على تعظيم المغانم وتجنب المواجهة.
فجيو اقتصاديا، من شأن إدراك البلدين للتكامل الاقتصادى، أن يهيئ الأجواء لتوثيق عرى التفاهم والتعاون فى مختلف المجالات، والتوصل إلى تسويات مرضية لمختلف القضايا العالقة والملفات الشائكة. طوال عشرية الجفاء السياسى، التى امتدت خلال الفترة (2013ــ2023)، نجح البلدان فى استبقاء وتطوير وشائج التعاون التجارى بينهما.
وتمتلك مصر وتركيا مقومات عدة لتحقيق التكامل الاقتصادى بين اقتصادين يتخطى حجمهما تريليونى دولار. فإلى جانب الاعتماد، بشكل كبير، على التصنيع، السياحة، التدفقات الاستثمارية الخارجية، وتجاورهما الجيوسياسى؛ يمتلك البلدان أسواقا محلية رائجة، بالنظر إلى رصيدهما الديمجرافى. وتتمتع مصر وتركيا بمكانة مميزة فى لوجيستيات النقل الدولى، تؤهلهما لتدشين شراكة ناجزة. وبينما أعلن الرئيس التركى عزم بلاده إحياء «مجلس التعاون الاستراتيجى رفيع المستوى» مع مصر، تتطلع الأخيرة لتطوير اتفاقية التجارة الحرة بين البلدين، بما يتيح تعظيم التبادل التجارى، وتكثيف التدفقات السياحية والاستثمارية. يضطلع قطاع الطاقة بدور حيوى فى بلوغ التكامل الاقتصادى المنشود بين البلدين. ففى حين تتصدر تركيا قائمة المستوردين للغاز المسال المصرى، وتتطلع إلى الانضمام لمنظمة غاز شرق المتوسط، يتنامى التعاون المصرى ــ التركى فى مجال الربط الكهربائى، والاستثمار فى مناحى الطاقة المتجددة. ويعول الطرفان على التعاون السلمى فى مجال الطاقة؛ باعتباره ركيزة لتعاون استراتيجى متعدد الأوجه والمستويات بين القاهرة وأنقرة. فبقدر ما أحدثت اكتشافات الغاز بشرق المتوسط تحولا فى موازين القوى، وتغييرا فى الخارطة الجيوسياسية للمنطقة، التى غدت مركزا عالميا ولوجيستيا للطاقة، بوسعها تعزيز أنماط التعاون الممكنة بين دول إقليم شرق البحر الأبيض المتوسط، بشأن ترسيم الحدود البحرية، وهندسة خطوط نقل الطاقة.
أما على صعيد التنسيق الاستراتيجى، فبمقدور البلدين توسيع دائرة التلاقى فى بعض الملفات والقضايا، عبر تفعيل الدبلوماسيات الشعبية، البرلمانية، والاستخباراتية. فضلا عن إحياء التواصل الحضارى، وتعزيز أواصر التعاون الثقافى. مع تكثيف التعاون الأمنى والاستخباراتى فى القضايا محل التوافق والاهتمام العالميين، مثل المناخ، البيئة، الطاقة، الأمن الغذائى، الأمن المائى، الأمن السيبرانى، الاستجابات الطارئة للأزمات، محاربة الإرهاب، الهجرة غير النظامية، الاتجار بالبشر، المخدرات، وتبادل المطلوبين.
بوسع الأطر، المشار إليها آنفا، توفير أرضية مشتركة، وتهيئة الأجواء لتفاهمات أوسع وأعمق لجهة القضايا الخلافية والملفات العالقة. علاوة على بلورة آليات مشتركة، للإنذار المبكر، بغية اكتشاف أى خلافات مستحدثة، وصوغ الاستراتيجيات الكفيلة بالتصدى لها قبل تفاقمها، وبأقل كلفة ممكنة. ففيما يتصل بالتقارب الاستراتيجى الثنائى، هناك تقارير متواترة عن تطوير التعاون العسكرى بينهما، علاوة على استئناف مناورات «بحر الصداقة» البحرية، التى كانت تجرى سنويا منذ العام 2009 بالتبادل بين المياه الإقليمية للبلدين فى البحر المتوسط، لكنها توقفت عام 2013. فضلا عن استكمال المشاورات التى بدأها الجانبان العام الماضى بشأن تدشين مسارات للتعاون بين شركات التصنيع الدفاعى لديهما، عبر إنشاء خطوط إنتاج مشتركة للذخائر والمنظومات التسليحية.
إقليميا، يمكن لتركيا توظيف صلاتها الوثيقة بإثيوبيا لمعالجة الشواغل المصرية بشأن سد النهضة، وعدم العبث بوحدة الصومال، أو تغيير الوضع الجيوسياسى فى جنوب البحر الأحمر، بما يستتبعه من تداعيات جيواستراتيجية مظلمة على المصالح الاستراتيجية للدولتين فى منطقة القرن الأفريقى وباب المندب. فإلى حد بعيد، يكاد الموقف التركى يتناغم مع نظيره المصرى، حيال مساعى إثيوبيا لإيجاد موطئ جيواستراتيجى على البحر الأحمر، عبر توقيعها مذكرة تفاهم مع ما يسمى بجمهورية «أرض الصومال» الانفصالية، تخولها إنشاء قاعدة عسكرية إثيوبية، وتأجير ميناء بربرة على البحر الأحمر لمدة خمسين عاما. ففى يناير الماضى، زار الرئيس الصومالى، حسن شيخ محمود، القاهرة، وبحث التهديدات الإثيوبية مع الرئيس السيسى. وقد جددت القاهرة دعمها لمقديشيو، استنادا إلى اتفاقية الدفاع العربى المشترك، مؤكدة رفضها مساعى التغلغل الإثيوبية إلى البحر الأحمر على حساب وحدة أراضى الصومال. من جهتها، لا تخفى تركيا انحيازها الكامل للصومال فى رفضه مذكرة التفاهم بين «أرض الصومال» وإثيوبيا. فإبان اتصاله بنظيره الصومالى عقب إعلان توقيعها، أكد الرئيس التركى مساندة بلاده للصومال وتأييدها لوحدة أراضيه. وفى السادس من فبراير الحالى، قام وزير الدفاع الصومالى بزيارة إلى أنقرة، وقع خلالها مع نظيره التركى، اتفاقية للتعاون الاقتصادى والعسكرى.
بدورها، تستطيع مصر استثمار علاقاتها الوثيقة مع اليونان، قبرص اليونانية وفرنسا، لتجسير الفجوة بين ثلاثتهم وبين تركيا. سواء عبر مساعدة الأخيرة على نيل عضوية منظمة غاز شرق المتوسط؛ أو من خلال التوسط لحلحلة الخلافات التركية مع تلك الدول الأوربية الصديقة للقاهرة. كما يمكن للمصريين والأتراك تأسيس حراك إقليمى ودولى، لحمل إسرائيل على الانخراط فى تسوية عادلة ونهائية للصراع العربى ــ الإسرائيلى، بما يمهد السبيل لتعاون إقليمى موسع، يعود بالنفع على مختلف الأطراف. وبمقدور التفاهمات المشتركة وارتفاع منسوب الثقة المتبادلة، أن يقودا إلى بلورة رؤى مشتركة لحلحلة الخلافات حول قضايا ليبيا، السودان، سوريا، العراق، شرق المتوسط، والإسلام السياسى.