عشت السنوات الأخيرة أنتظر الإعلان عن نهاية صلاحية النظام الإقليمى العربى. كنا، على الدين هلال زميل الدراسة وأنا، قد تنبأنا قبل خمسة وثلاثين عاما بأن نهاية صلاحية النظام سوف ترتبط بتوافر شروط معينة، اعتقد الآن أنها توافرت، وحق علينا واجب الاستعداد لمواجهة لحظة سقوط النظام القائم وظهور النظام البديل.
حانت ساعة الرحيل، تؤشر لها ثلاث أزمات حادة وجوهرية: أزمة انحسار عقيدة النظام، وأقصد العروبة، وأزمة افتقاد مؤسسات النظام، مثل الجامعة العربية ومنظماتها المتخصصة إلى الرضاء القومى العام، على المستويين الحكومى والشعبى، وأزمة ثالثة ناتجة عن اختراق واسع الشأن وعميق الأثر من جانب دول فى الجوار لحدود النظام الخارجية، وبعدها إلى الحدود الداخلية، أى إلى أعماق الحياة السياسية العربية.
كانت المؤشرات واضحة منذ وقت غير قصير، ومع ذلك استمر إصرارى على أن معظم المؤشرات أدلة غير مقنعة وقاطعة بضرورة إعلان النهاية ومستنكرا الدعوات المتكررة لترحيل النظام واستدعاء غيره. اعتقدت أن العنف وغيره من مظاهر عدم الاستقرار التى رافقت الإجراءات الحالى اتخاذها نحو إنهاء عروبة النظام، سوف تمهد لعنف أشد خلال مرحلة الانتقال من نظام عربى إلى نظام آخر، أو نحو وضع أسوأ بكثير، وأقصد نحو فراغ اللابديل.
جئت بهذه المقدمة المطولة بمناسبة قرب انعقاد دورة جديدة لمؤتمر القمة العربى، عنوان الدورة الأمن القومى العربى. لا أشك للحظة فى أن العنوان، كان اختيارا مناسبا عندما بدأ التفكير فيه. بعضنا يعلم أن الموضوع مطروح على القمم العربية ومجالس الجامعة والقيادات العسكرية والدبلوماسية العربية منذ سنوات عديدة، وأنه ووجه فى كل المرات بعقبات تعجيزية. وها هى مصر تعود فتطرحه، ولديها أسبابها ومخاوفها، وها هى الأمانة العام للجامعة تتبناه ولديها هى الأخرى أسبابها وأهدافها. أكاد أجزم، بناء على قراءتى وليس استنادا لمعلومات، أن من بين هذه الأهداف، أو فى صدارتها، الرغبة فى اقتناص الفرصة لعل وعسى تقتنع الدول الأعضاء بضرورة صرف النظر عن خطط ونوايا ترحيل النظام العربى القائم وتأسيس نظام بديل. فى ظنى، كما فى ظن بعض أقرب المتابعين لشئون الجامعة العربية، أنها قد تكون آخر فرصة.
•••
طرح الفكرة اختيار مناسب كالعهد به فى أوقات الأزمات السابقة، ولكنه يأتى هذ المرة متأخرا، بل وأتوقع أن تعتبره دول عربية معينة غير مناسب.. الموضوع، وأقصد موضوع الأمن القومى العربى، لا يزال فى حد ذاته وبالمنطق والعقل مطلوبا، ولايزال بالعاطفة مرغوبا، لا لشىء إلا لأن الهوية الغالبة حتى الآن فى المنطقة لا تزال حتى لحظة كتابة هذه السطور عربية. أسمع وأقرأ من يقول إن واقع الحال والتطورات السياسية الأخيرة، سواء ما تعلق منها بتطور العلاقات العربية التركية، وتطور العلاقة بين إيران وأمريكا، وبين إيران ومساحة كبيرة من الأرض العربية، وشرائح واسعة من أصحاب المصالح القبلية والانفصالية، وتطور الوضع فى مصر، وتخبط النوايا الغربية فى اتجاهات تبدو متناقضة، والصعود المتوحش لجماعات فوضوية ترتدى ثياب خلافة، وتهديدات حقيقية لميراث وستفاليا ذى الجذور الطرية فى عالمنا العربى، كل هذه التطورات جعلت توقع صدور قرار قوى وفاعل وواضح فى شأن إنعاش الأمن القومى العربى، أمرا غير قابل للتحقيق فى القمة العربية عند انعقادها بعد أيام.
يدفعنى فى اتجاه توقع ضغوط ومناورات لإحباط، وربما إجهاض، أى مشروع جديد للأمن القومى العربى تطرحه مصر أو الأمانة العام للجامعة اعتبارات أربعة على الأقل.
أولا: المشروع المقدم للقمة العربية بهدف إعادة الاعتبار لفكرة الأمن القومى العربى وتطويرها وتحديثها ونقلها إلى المستوى العملياتى، مشروع «أيديولوجى» بامتياز. الحديث عن أسلحة متطورة ونظام تسلح وفرق وقوات إنزال سريع أو بطىء وميزانيات دفاع وتحالفات عسكرية وقيادة لابد أن تكون عربية وموحدة. لا يخفى حقيقة أن المشروع عربى «التفكير والتخطيط»، عربي «التشكيل والتنفيذ»، عربى «القيادة»، عربى «التمويل. مشروع «عربي» فى وقت كادت تغيب هوية الإقليم . حلت محلها فى مواقع بعينها هويات أعلى، وحلت محلها فى مواقع أخرى هويات أدنى. وجميعها هويات محروسة من الخارج أو مدعومة منه. هناك من يعتبر الفكرة التفافا خطيرا لاستعادة قوة «العقيدة العروبية». هذه العقيدة كانت فى حد ذاتها وعلى مدى عقود حافز دفاع ورصيد أمل. العودة إليها ربما حملت معنى الرغبة فى المحافظة على عروبة النظام، ومواجهة خطط استبداله.
للخائفين على عروبتهم عذرهم، فالخريطة الراهنة لتوزيع النفوذ فى الشرق الأوسط أحسن دليل على أن القوى المتحكمة حاليا فى تفاعلات المنطقة بأسرها «إسلاموية» التوجه . هذه القوى، دول أو أحزاب أو عصابات، نجحت فى أن تجعل التشدد والتطرف الفكرى عقيدة وتجعل الإرهاب سوطا لإخضاع الأمة العربية وإجبارها على الكفر بعروبتها وتتوسل العون من الخارج. نجحت أيضا فى أن تطرح على خريطة المستقبل عصرا من النزاعات والحروب الدينية، وبمعنى أدق أذنت بعصر الصراع الدموى بين المذاهب والاجتهادات الإسلامية.
ثانيا: يحتاج تمرير قرار فى القمة العربية على هذا المستوى إلى أجواء عربية صافية وأجواء إقليمية هادئة، وإلى تفهم من جانب الدول العظمى المتدخلة عادة فى صنع القرارات العربية الهامة. نعرف أنه لا شرط واحدا من هذه الشروط متوفر الآن. لا الأجواء العربية صافية ولا الأجواء الإقليمية هادئة، ولا القوى الغربية متفهمة هذا المشروع تحديدا وإن أبدت تعاطفا مع تكتلات عسكرية إقليمية تقع على هواها وتحت رقابتها. ومع ذلك نعترف أن لا شرط من هذه الشروط كان متوافرا على النحو المطلوب على امتداد عمر النظام الإقليمى العربى. ويبدو أنه لن يتوفر. ولكن يبقى فى حوزة القيادات السياسية الموجهة للنظام العربى إمكانات عمق قومى وحشد جماهيرى وتحالفات مصالح وتوازنات قوة، سمحت أكثر من مرة بتفويت الفرصة على دول الجوار للتدخل وأجبرت أحيانا القوى الدولية على الرضوخ للإرادة القومية فى العالم العربى.
صحيح أن أيا من هذه الإمكانات غير متوافر الآن، أو يصعب توفيره. فالعروبة مثلا، حتى كمكون ثقافى وقوة معنوية، تعيش تحت الحصار منذ سنوات ولكن الصحيح أيضا أن الجماهير صارت تعرف كيف تحشد نفسها بنفسها ولا تنتظر، وربما لن تحترم، إشارة من نظام حاكم هنا أو هناك يذكرها بهويتها. صحيح أيضا أن التحالفات فى عصر الانفلات والانفراط صارت أقرب ما تكون إلى صفقات وشراكات تجارية . أما توازنات القوة الإقليمية فقد اختلت اختلالا شديدا منذ ديسمبر 2010، أى منذ اندلاع شرارة «ثورات الربيع العربي» وبالتأكيد صار السعى لتولى زعامة العرب فى الظرف الراهن سياسة محفوفة بمخاطر وتكاليف لا قبل لنظام عربى منفرد بها سواء اختار العروبة حافزا أم قرر طمسها والقفز فوقها .
بحكم الواقع، يبدو الاقتراح بتشكيل قوات مسلحة عربية كضرب من الخيال. هناك فى الخليج توجد قوات مشتركة تحت اسم درع الجزيرة، مستعدة للتدخل فى بعض وليس كل أنحاء الجزيرة العربية، وليس أبعد من ذلك. جيوش سوريا والعراق واليمن وليبيا وتونس والسودان منشغلة، وستبقى منشغلة لسنوات طويلة قادمة، علما بأن أغلبها فى حالته الراهنة لا يصلح لأداء واجبات عسكرية خارج حدودها، وأكثرها إن أتى إلى القوات العربية الموحدة فسيأتى يحمل رايات دينية أو طائفية تمنع اندماج القوات وتنقل التوتر والتعصب إلى قلب «الجيش العربى الواحد»، وتجعل حياة الأمين العام للجامعة ورؤساء أركان قواته المسلحة جحيما لا يطاق.
ثالثا: الذائع فى الأوساط الإعلامية العربية، وأوساط دبلوماسية وقيادات سياسية أن المطروح على الساحة العربية والإقليمية اقتراحان، اقتراح صار معلنا، وهو الذى سيعرض على القمة العربية فى اجتماعها خلال أيام .هذا الاقتراح معنى بإنشاء قوة مسلحة عربية لحماية الأمن القومى العربى وتكون تحت إشراف جامعة الدول العربية. واقتراح تحت الدراسة لإنشاء حلف عسكرى إقليمى يضم قوات من دول عربية ومن تركيا، يتولى المهمة ذاتها، أى يتولى مسئولية مواجهة الإرهاب وأى أخطار أخرى محتملة مثل خطر إيران، دولة الجوار الثانية. ثم خرج من يقول «الاقتراحان مكملان لبعضهما البعض، فالأول لحماية المنطقة من الإرهاب والثانى لحماية دول عربية معينة من إيران. وهناك من الأموال والجنود ما يكفى لمواجهتين فى وقت واحد».
مصر وهى القطب المنحدر نفوذه الإقليمى تتحمس للأول ولا تتحمس للثانى. والمملكة السعودية، وهى القطب الصاعد إلى قمة النفوذ فى نظام عربى متهالك ومتهاوٍ، تتحمس للثانى خوفا من تغلغل النفوذ الشيعى فى الجزيرة والمشرق. وتعتقد المملكة فيما يبدو أن تركيا أقدر من أى دولة عربية على قيادة هذا الحلف العسكرى، ومن الممكن خلق مصالح لها وحوافز تشجعها على تولى هذا الدور. لا يحتاج الأمر لخبرة طويلة فى العمل العربى المشترك للحكم مقدما بأن المفاوضات حول الاقتراحين ستكون شاقة، فالمصريون لن يرضوا القيام بعمل عربى بقيادة تركية وبأهداف تخدم توجهات الحزب الإسلامى الحاكم فيها، والأتراك لن يقبلوا بأقل من قيادة منفردة، تراعى الهوية المثلثة للسياسة الخارجية التركية، كما حددها رئيس وزرائها الحالى، وهى «أوروبية.. إسلامية.. تركية».
من ناحية أخرى، لن تكون إيران سعيدة بحلف عسكرى عربى تركى، يكون موجها ضدها. وأظن أنها لن تتأخر فى التعبير عن نقص سعادتها بتكثيف علاقاتها وتدخلاتها الأمنية فى كل موقع وصلت إليه واحتلال مواقع جديدة. ايران تشعر أنها مرشحة للعب أدوار إقليمية سوف تسمح لها بأن تتقدم على تركيا فى المكانة الاستراتيجية عند أمريكا والغرب عموما، تشعر أيضا أن علاقاتها بتركيا أعمق وأشد تداخلا من أن يؤثر فيها أوضاع وسياسات عربية أو أمريكية.
لا أظن أن قيادة عسكرية مصرية، أو سورية إن وجدت، أو عراقية ستقبل بالعودة إلى «تتريك» الأمن القومى العربى. ولا أظن أن العقل العسكرى التركى سيتقبل المشاركة مع عسكريين من مصر أو سوريا أو العراق أو السودان فى قيادة جيش إقليمى يواجه به إيران، أتوقع معارضات شاقة لجهود تمرير المشروع العربى للأمن القومى، ومعارضات أشد لجهود تمرير المشروع التركى للأمن الإقليمى، ونشاط غربى مكثف للتوفيق بين المشروعين.
رابعا: السطور السابقة تنتهى إلى نتيجة محددة بين نتائج أخرى، نتيجة تهمنى بشكل خاص لأنها تتعلق بلحظات زوال النظام الإقليمى العربى وقيام غيره. انتهت السطور إلى أن النظام العربى محشور حشرا فى طريق الزوال، وأن نظاما إقليميا جديدا ربما اقتربت نوايا إقامته من دخول مرحلة التأسيس. نعرف أن مراحل الانتقال فى النظام الدولى والإقليمى تكون عادة شاقة، بل ودموية، بمعنى أنها مراحل حرب واقتتال وإبادة ومحارق وكوارث. نعرف أيضا أنها المراحل التى يجرى خلالها وضع قواعد جديدة للعمل ولممارسات تتناسب وحداثة النظام الناشئ وظروف العصر وطبيعة العلاقات الدولية والتقدم التكنولوجى والتطور الذى لحق بالقانون الدولى ومؤسسات المجتمع المدنى الدولية أو الإقليمية. فى الوقت نفسه، تجتهد دول الإقليم، نخب حاكمة ومراكز عصف فكرى ومؤسسات عسكرية ومدنية وقيادات فكرية، لابتكار نظام توازن إقليمى، إذ إنه بدون توازن قوى إقليمى لن يمكن منع انفراد دولة بقيادة النظام، وسيكون صعبا فرض العقاب على دولة إقليمية خرقت القواعد التى وضعت لضمان استقرار هياكل النظام الإقليمى الجديد، وحسن أداء مؤسساته.
العنف الدموى فى النظام العربى حاصل والكوارث واقعة ونحن شهود عليها والقواعد توقف العمل بها ولم تنشأ بعد قواعد جديدة. كما أنه لم يقع بعد جهد منظم لإقامة توازن للقوى، وإن كان هناك مؤشرات على أن جهودا تبذل على المستوى الدولى والإقليمى لابتكار نظام توازن يراعى ظروف إيران الجديدة وامكانات تركيا الاقتصادية وعضويتها فى الأطلسى ويراعى قدرات العرب المالية وقوى الثورة العربية المتوقفة مؤقتا. إن نجاح هذه الجهود بانضباطها فى إطار منتظم وتوقيتات مناسبة، سيكون مؤشرا على أن نظاما إقليميا جديدا يوشك أن يولد، وأن نظاما إقليميا عربيا يوشك أن يختفى.
•••
لمصر دور فى الروايتين، رواية نسجت مصر بنفسها فصولها وتحتفظ لنفسها فيها بدور البطولة، وتحكى فيها حكايتها مع الإرهاب. ورواية نسج فصولها آخرون. تحكى حكاية قديمة قدم تاريخ المنطقة ورغم قدمها لم يكن لمصر سوى علاقة هامشية بأبطالها التاريخيين. هؤلاء الأبطال الجدد فى الساحة العربية ربما خصصوا، أو سوف يخصصون، لمصر دورا ثانويا أو جانبيا فى روايتهم. أعود فأقول لصانعى السياسة الخارجية المصرية: اخرجوا بسرعة من عباءة نظام مبارك ومن سبقه، واشرعوا فورا فى إعادة تقييم ثورة الربيع، ففيها دروس ثمينة للخروج من أزمات الدور والهوية والقدرة.