- ماذا تعنى كلمة «الاقتصاد الحر»؟
فى محاولة للإجابة عن السؤال، بلغة علم الاقتصاد، نقول إن لهذه الكلمة، غير الشائعة كثيرا بنصها فى الكتابات الاقتصادية المعاصرة، ثلاثة معان مترابطة:
المعنى الأول هو إيلاء الثقة الكاملة أو شبه الكاملة للمبادرات الفردية ولأصحاب الملكية الخاصة (القطاع الخاص) أكثر من جهاز السلطة العامة ولو كان جهازا ديموقراطى التكوين والأداء.. وقد كانت الدولة المصرية فى عصر ثورة 23 يوليو (1952ــ1970) قد أقامت قطاعا عاما عريضا، بوسائل متنوعة، كانت ولم تزل محل اختلاف وخلاف، ثم جاءت سياسة «الانفتاح الاقتصادى»، وخاصة من بعد حرب أكتوبر 1973، لتضع على رأس جدول أعمالها التحول عن القطاع العام إلى القطاع الخاص بذرائع مختلفة.
من الناحية العملية فقد تم التخلص من الجسم الرئيسى للقطاع العام ولا سيّما شركاته الصناعية، بأساليب مختلفة، عبر ما سمى بعد ذلك «الخصخصة»، حيث تحول نحو سبعمائة شركة من القطاع العام إلى القطاع الخاص، خلال فترة الاندفاعة الكبيرة إلى «الخصخصة» فى عقد التسعينيات وحتى عام 2005 وهى فترة الانعطافة الحادة نحو القطاع الخاص الكبير، من عالم «رجال الأعمال». وبذلك عاد الاقتصاد المصرى عاريا من القاعدة التصنيعية إلى حد كبير، إلا فى إطار القوات المسلحة بالمعنى العام، سواء من خلال الشركة القابضة لشركات الإنتاج الحربى، أم الهيئة العربية للتصنيع ــ العسكرى.
أما من الناحية الفكرية فإن الخصخصة الشاملة جرت، ولسوف تجرى توابعها فيما يبدو خلال الفترة القريبة القادمة ــ تحت ظل مقولة فكرية نراها عارية عن الصحة من زواية الفكر الاقتصادى الذى نراه كذلك. إذ يقول خصوم الملكية العامة إن القطاع الخاص أكفأ بطبيعته من القطاع العام. والحقّ أن فارق الكفاءة، إن وُجد، لا يكون بسبب نمط الملكية ولكن بسبب أسلوب الإدارة الانتاجية، فرُبّ مشروع عام حقق مستوى من الانتاجية والكفاءة والقدرة التنافسية أعلى من كثير من المشروعات الخاصة، لو توفرت له عوامل الإدارة السليمة والقوة البشرية المؤهلة.
هذا إذن هو المعنى أو الركن الأول لدعوى «الاقتصاد الحر»، وقد رأيناها لا تستند إلى أساس متين، لا من الناحية العملية (نزع التصنيع) ولا من الناحية الفكرية (مزاعم الكفاءة).
***
أما الركن الثانى فهو الإيمان الكامل بآليات السوق الحرة كما يقولون، أو اقتصاديات السوق، أو جهاز الثمن، جهاز الأسعار، أو «العرض والطلب»، وفق هذه المترادفات جميعا.
من الناحية الفكرية يستند دعاة «السوق الحرة» الخالصة ــ وهم بالمناسبة قليلون جدا على ساحة الفكر الاقتصادى التنموى المعاصر ــ إلى أن السوق هى الأداة المثلى لتخصيص الموارد وتوزيع الدخول، ويرجعون فى ذلك إلى ما ذكره آباء الاقتصاد السياسى الكلاسيكى فى الربع الأخير من القرن الثامن عشر فى أوروبا، خاصة بريطانيا، ولا سيما «آدم سميث» الذى دعا إلى الحرية المطلقة للنشاط الاقتصادى، إنتاجا وتجارة، وأن الدولة بطبيعتها زارع سيئ، وصانع سيئ، وتاجر سيئ. وقد جرت مياه كثيرة فى الأنهار من بعد آدم سميث. فقد بزغت من بعد المدرسة الكلاسيكية، مدرسة «النيو كلاسيك» فى أواخر القرن التاسع عشر وحتى الثلث الأول من القرن العشرين، ثم جاءت مدرسة جون ماينارد كينز على وقع الأزمة الاقتصادية الكبرى فى العالم الغربى (1929ــ33) حيث دعت إلى ما هو مختلف تماما، فيما عرف أوربيا ودوليا بعد ذلك بمذهب «تدخل الدولة الرأسمالية» و«دولة الرفاهة». واستمرت سيادة الكينزية نحو أربعين عاما، حتى منتصف السبعينيات تقريبا، وفى نفس الوقت انتشر الفكر الاقتصادى الاشتراكى ومدارس التنمية وتيار نقد «التبعية» فى العالم الثالث، وأصبح من الشائع الحديث فكريا وعمليا عما هو عكس «السوق الحرة» أو «الاقتصاد الحر» تماما.
أصبح الأقرب إلى المنطق الاقتصادى والمصلحة الاجتماعية الدعوة إلى قيام الدولة ــ السلطة العامة ذات الطابع الديمقراطى ــ بأداء وظيفتها التدخلية اقتصاديا واجتماعيا، لمواجهة الظاهرة الواسعة العميقة التى يطلق عليها «فشل السوق».
فلأسباب كثيرة، من الناحية العملية، اتضح إخفاق السوق الحرة فى تحقيق التوازن الاقتصادى عند المستوى القريب من التشغيل الكامل للموارد الاقتصادية، وقام على أنقاض مذهب «الاقتصاد الحر» اقتصاد جديد مؤسس على المزج بين السوق وتدخل الدولة الفعال، فيما عرف بالاقتصاد المختلط أو الموجّه، وخاصة فى البلدان شحيحة الموارد فقيرة السكان كما هى مصر الآن.
صحيح أن النظام الرأسمالى الدولى قد انتفض دفاعا عن نفسه فى مواجهة دعوات العدل الاجتماعى وتنمية الجهاز الإنتاجى فى البلاد المتخلفة اقتصاديا، فلجأ ذلك النظام إلى استعادة فجة «للفكر الكلاسيكى» فى ثوب آخر يقال له «الليبرالية الجديدة» كما يدعو إليها «صندوق النقد الدولى»و «البنك الدولى». وهى بالغة الخطر والخطورة على التوازن الاجتماعى للبلدان النامية، وعلى مستقبل التنمية الاقتصادية، إذْ تدعو إلى تحميل عبء مواجهة الأزمات الاقتصادية على عاتق الطبقات العاملة من المنتجين اليدويين والذهنيين، باعتبار أن تزايد الإنفاق الاجتماعى على دعم الفقراء هو السبب الأساسى للخلل المالى المزمن، وليس أى شىء آخر مثل نفقات الاستهلاك غير الضرورى للأغنياء، ونفقات التسلح والعسكرة الزائدة بلا موجب ضرورى.
من هنا إذن ــ فى مضمار الركن الثانى لفكرة وممارسة «الاقتصاد الحر» ــ يتضح أن التعويل على السوق ليقوم بالتصحيح الذاتى لآلية تشغيل الاقتصاد الوطنى، أمر لا يمكن الاعتماد عليه علميا وعمليا، وأنه يمكن أن يؤدى إلى إخلال خطير بالتوازنات الاقتصادية الكلية، والاجتماعية أيضا، وأنه لا بد من استعادة الدور الفعال للدولة ــ ديموقراطيا ــ لتعيد التوازن المفقود وتفرض على قوى السوق العمياء آليات تنظيمية وأدوات إشرافية تكفل السير على طريق التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية.
***
من ثم يأتى موقع الحديث عن الركن الثالث لدعوى لاقتصاد الحر، وهو الاستبعاد الكامل أو شبه الكامل للنهج التخطيطى الحقيقى، نهج التخطيط القومى الشامل بمساراته المتنوعة ولكن المتكاملة فى نفس الوقت. وهم يزعمون الخشية على الحريات الاقتصادية من التخطيط، متجاهلين أنه يتضمن «التخطيط التأشيرى» المصمم للتأثير فى سلوك القطاع الخاص، بما يتكامل مع التخطيط المركزى لمشروعات القطاع العام والحكومى فى منظومة شاملة متوازنة الأداء.
يأتى فى مضمار الركن الثالث أهمية تحقيق أحد الدروس المستخلصة من الحقبة المظلمة لما قبل ثورة يناير، وهو ضرورة عدم السماح بأى قدر من التزاوج بين المال والسلطة تشريعية، كانت أو تنفيذية، كما كنا نقول جميعا أثناء وعقب الثورة.
يتحدث البعض منتقدا أى توجه نحو تفعيل التدخل الحكومى بزعم أنه كان فاشلا على الدوام، وأن تصحيح الخلل بين العرض والطلب، يكون عن طريق زيادة عرض السلع فى المنافذ التجارية ولو بالاستيراد، متناسيا أن بناء القاعدة الإنتاجية والتصنيعية هو العامل الرئيسى لتصحيح خلل التوازن بين العرض والطلب.. وأن التدخل من قبل أجهزة الدولة لمواجهة فشل الأسواق، وتوجيه الاقتصاد بالتخطيط التأشيرى وبالخطة الشاملة، هو العاصم دون الانحرافات الفعلية والمحتملة للفاعلين من القطاع الخاص بجميع شرائحه، الصغرى والصغيرة، والمتوسطة والكبيرة جميعا.