نشر الموقع الأمريكى salon مقالا للكاتب «فرانك يورجين ريشتر» يتناول فيه إشكالية ربط العولمة بانتشار عدم المساواة فى العالم، ويتحدث الكاتب عن أنه هناك أسباب أخرى عديدة ومتنوعة لعدم المساواة ترتبط بسياسات الدول ولا علاقة لها بالعولمة، ويطرح الكاتب العديد من الحلول للوصول إلى عولمة تضمن المساواة بين الجميع فى أنحاء العالم.
يبدأ الكاتب حديثه بأنه إذا ظل مفهوم العولمة مفهوما غامضا وضبابيا، فقد تبدو أن تداعياتها السلبية اليوم أكثر وضوحا من أى وقت مضى. من البريكست إلى ترامب، إلى فيكتور أوربان فى المجر، إن الغموض العميق لمفهوم العولمة يتصاعد فى جميع أنحاء العالم. ومع القلق المتزايد بسبب تصاعد الشعبوية والحمائية، فإن الجميع مرة أخرى سيعيدون التفكير فى الحجج القديمة، ويقيمون منافع وإيجابيات العولمة مقارنة بسلبياتها وأضرارها.
بالنسبة لمنتقدى العولمة، فإن تقرير عدم المساواة العالمى الذى صدر أخيرا أوضح بشكل كبير الجانب السلبى للعولمة وأثبت صحة النسخة الأكثر كآبة من العولمة. وفقا لهذه الرؤية، فإن عدم المساواة هو نتيجة حتمية للعولمة. ومنذ عام 1980، يؤكد التقرير على أن عدم المساواة بين مواطنى العالم قد ازداد.
ولكن فى الوقت الذى يستخدم فيه البعض التقرير لرفض هذه الظاهرة العالمية ــ العولمة ــ، تشير إحدى الدراسات الأخيرة فى the Harvard Business Review إلى أن التقرير يساعد أيضا على تبديد سوء الفهم والنظرة السيئة للعولمة المنتشرة حول العالم، ويدعو للقيام بعمل حوار مثمر وهذا ما نحتاج إليه اليوم بشدة.
على عكس ما يشاع عموما، تشير أرقام التقرير إلى أن عدم المساواة ليست مصاحبة لتزايد التجارة والتكنولوجيا بشكل حتمى، بل هى نتيجة للسياسة.على سبيل المثال، عند دراسة التغيرات فى المساواة فى الولايات المتحدة وأوروبا منذ عام 1980، نجد أنه فى الولايات المتحدة يمكن إرجاع التزايد النسبى الكبير فى عدم المساواة فى الولايات المتحدة إلى قراراتها وسياساتها فى المجالات الرئيسية المتعلقة بعدم المساواة ــ تقويض ضريبة الدخل، تكلفة التعليم العالى، الحد الأدنى للأجورــ القضية التى عفا عليها الزمن ــ والحرمان من الرعاية الصحية الشاملة.
يضيف الكاتب أنه قد مضى وقت طويل حتى نتجاوز الحديث عن إيجابيات وسلبيات العولمة وإلزام أنفسنا بالمناقشات القائمة على الحلول الهادفة للوصول إلى عولمة أكثر مساواة. لقد أنتجت التجارة الدولية والرقمنة وتدفقات رأس المال والاتصال الجماهيرى فائزين وخاسرين كبيرين: تقدم وازدهار لم يسبق لهما مثيل، فضلا عن الإحباط والخوف. لكننا لسنا عاجزين عن جعل العولمة تعمل من أجل الجماهير، ومن بين الخطوات العديدة التى يجب اتخاذها، سوف يتم التركيز على عدد معين من النقاط ذات الأهمية الواضحة.
التخلى عن الخطط قصيرة الأجل
إن التطلع نحو شكل أكثر عقلانية من الناحية الأخلاقية للعولمة هو الالتزام بالحكم بعيد النظر والنتائج طويلة المدى، يختار قادتنا فى كثير من الأحيان الخطة الأكثر شعبية فى السياسات. إنهم يؤجلون «القرارات الصعبة» حتى نصل إلى مرحلة لا يصبح لدينا فيها أى خيارات متاحة. وكما يقول جوناثان بوسطن، فى العصر الرقمى المترابط بشكل كبير، فإن هذا الاتجاه يتفاقم بسبب الضغوط الإعلامية والتوقعات العامة بشأن ردود الفعل الفورية على الأحداث.
إلى حد كبير، يمكن أن يعزى هذا الاهتمام «بالمدى القصير» إلى مقتضيات الدورات الانتخابية القصيرة ــ لا سيما فى الغرب، حيث أن صناع السياسة لا يخدمون لفترات طويلة بما يكفى للتعامل مع القضايا الاجتماعية والاقتصادية المعقدة. هم بدلا من ذلك غالبا ما يهتمون بإرضاء الناس فى الفترة التى يتولون فيها المنصب، من أجل ترك بصمتهم أو حتى يتم إعادة انتخابهم مرة أخرى.
إن الخطوة الأولى للتوجه نحو اتباع سياسات طويلة الأمد هى إطالة الفترات الانتخابية. هنا يمكننا النظر إلى الجوانب الأكثر إيجابية فى الأنظمة السياسية الشرقية مثل تلك التى فى سنغافورة والصين.
على الرغم من أن الغرب قد يستهجن بعض جوانب النظام السياسى الصينى، إلا أنه يحقق درجات عالية من الثقة، فإن قادة الحكومة الصينية يخدمون لمدة عشر سنوات، ويتم اتخاذ القرارات مع وضع الأجيال المستقبلية فى الاعتبار. وفى الوقت الذى تستثمر فيه الصين المليارات فى «طريق الحرير الجديد» الذى ينظر إلى المستقبل، فإن ضعف الاستثمار فى البنية التحتية الأمريكية يكلف الأسرة الأمريكية 3400 دولار فى السنة.
من الممكن أن يبدأ التفكير المستقبلى فى تصحيح الآثار الضارة الناتجة عن العولمة وانتشار عدم المساواة. على سبيل المثال، أثناء الأزمة المالية كانت الطبقات المتوسطة والدنيا بشكل خاص هى الأكثر تأثرا بها، فى حين أن الفقراء كانوا يدفعون التكلفة البيئية للعولمة بشكل غير متناسب. لابد من التفكير على المدى الطويل واتخاذ سياسات لتجنب أى أزمة مالية أخرى واتخاذ تدابير لتجنب الكوارث المناخية.
تعزيز دور المؤسسات متعددة الجنسيات
بينما يشهد الاتحاد الأوروبى « Brexit» وفى ظل تنامى المشاعر المعادية للاتحاد الأوروبى، فإن الثقة فى الكيانات الدولية فى تراجع ــ الخوف من العولمة التى تغذى الشعبوية، ويصف الشعبويون المؤسسات المتعددة الجنسيات بأنها تهديد للسيادة الوطنية. ومع ذلك، فإن الكيانات الدولية وأصحاب المصالح لهم دور مهم فى تقويض السياسات قصيرة المدى وضمان توزيع ثمار العولمة بالتساوى.
لقد حققت المنظمات الدولية إيجابيات وخطوات مهمة كان من المستحيل أن يتم تحقيقها من خلال الحكم الذاتى. إن الاتحاد الأوروبى الخاسر أخيرا ــ الذى يستحق الكثيرــ يستحق الثقة باعتباره الضامن لأطول سلام دائم عرفته أوروبا منذ أكثر من 2000 سنة. وتكريسا للمبدأ القائل بأن تقاسم الثروة يمكن أن يعجل بالنمو، جلبت قيادته الاستقرار والازدهار لكل من الاقتصادات الطرفية والقوية للدول الأعضاء.
دعم الضعفاء
إن نظم الرعاية الاجتماعية، التى نشأ الكثير منها مع الثورة الصناعية لم تواكب العولمة. ومع انتقال ملايين الوظائف من البلدان المتقدمة إلى البلدان ذات التكلفة الأقل، والتهديد المستمر بالاستعانة بمصادر خارجية، استحوذت ثقافة القلق والغضب على الكثير من الطبقات الوسطى والدنيا من عدم الاستقرار الاقتصادى.
وبينما نعمل من أجل عولمة عادلة، يجب علينا أيضا تصحيح تداعياتها الظالمة، وإعادة الثقة إلى من يشعرون بأنهم مهمشون. ومن أجل القيام بذلك علينا الاهتمام بسياسات الرعاية الاجتماعية التقدمية ولا سيما الرعاية الصحية الشاملة ووضع التشريعات لرفع الحد الأدنى للأجور لتتواكب تكاليف المعيشة.
ووفقا لمنظمة الصحة العالمية، هناك ما يقرب من 100 مليون شخص يضطرون لدفع أموال مقابل الحصول على الخدمات الصحية فى حين أن توفير الرعاية الصحية يعمل على تحسين ويسهم فى النمو الاقتصادى ويحد من الفقر. وفى الوقت نفسه، فإن التأثير الاقتصادى لرفع الحد الأدنى للأجور هو محل جدل دائم إلا أنه هناك إجماع على أنه يقلل من عدد الأشخاص الذين يعيشون تحت خط الفقر.
دورنا كمجتمع يتمثل فى أن لدينا التزاما أخلاقيا لحماية أولئك الذين لا يملكون الموارد اللازمة لحماية أنفسهم. وإلى جانب هذا التبرير الأخلاقى يمكننا أن نضيف مبررا براجماتيا ألا وهو أن الاستقرار الاقتصادى يعزز الاستقرار السياسى ويقوض السياسة القائمة على الخوف.
عولمة أخلاقية مستدامة
وختاما يضيف الكاتب أنه على مدى ثلاثة عقود ونصف عملت العولمة على تحول سريع فى الصناعات والاقتصاديات فى جميع أنحاء العالم. لقد جلبت الوظائف إلى الدول النامية، وسهلت التبادل بين الثقافات ونقل المعرفة التقنية، وفى بعض الأحيان هيأت الظروف للتحول إلى الديمقراطية. لكن السياسة لم تواكب هذه الوتيرة المتسارعة اليوم، جزء كبير من العالم أدرك أنه خاسر من جراء العولمة. إننا نحتاج الآن إلى طريقة جديدة للعمل تقوم بإعادة ثقة الناس فى فكرة العولمة المتكافئة.
إعداد: ريهام عبدالرحمن العباسى
النص الأصلى