عجبت لشعب صنع ثورة عظيمة وسقط بعدها فى الإحباط. لماذا؟ ربما هو التغيير فى حد ذاته؟ فالتغيير ــ حتى للأحسن ــ به بعض المعاناة وبعض الثمن المدفوع. هل جربت الانتقال من بيت إلى بيت أفضل منه؟ هل شعرت بالتعب من عملية «العزال»؟ هل شعرت بالحنين أحيانا إلى البيت القديم بالرغم من حالته المزرية؟ أظن ذلك. فأنت لك تاريخ فى المنزل القديم. والتاريخ ــ بحلوه ومره ــ هو جزء من الإنسان. لكن هل قررت العودة إلى البيت القديم؟ مستحيل. نحن انتقلنا من بيت مبارك المتداعى، المعتم، الملىء بالعنكبوت إلى بيت أفضل منه. البيت الجديد ما زال فى حالة فوضى. فالعزال لم يتم ترتيبه بعد. لكن البيت الجديد فيه شبابيك تطل منها الشمس ويصعب إغلاقها إلا بتكلفة باهظة.
دعونا نتخيل أن الثورة لم تقم أو أنها انفضت بدون إسقاط الرئيس. المصير كان تحمل حسنى مبارك لفترة رئاسية جديدة وبقائه فى الحكم حتى آخر لحظة فى حياته. وتعلمون ماذا يعنى بقاء رئيس فى السلطة لمدة أربعين سنة واستمرار قيادة الدولة فى يد من شارف على التسعين عاما؟ النتيجة العملية التى خبرناها فى السنوات الماضية كانت انتقال الحكم من الرئيس إلى عائلة الرئيس وشلة ابن الرئيس، ذلك لأن الرئيس هرم ولم يعد قادرا على الحكم. الثورة كانت الحل الوحيد لإحالة مبارك إلى التقاعد. فى تونس، عندما وصل الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة إلى أرذل العمر، وعندما أصبح يغط فى النوم أثناء الاجتماعات، جاء وزير داخليته زين العابدين بن على سنة 1987 لكى يحيله للتقاعد بشهادة طبية تفيد عجزه عن أداء مهام منصبه. فى مصر، لم يكن هناك رجل ثان فى الحكم لكى يحيل مبارك للتقاعد بشهادة طبية. وقد استمرت المناشدات طوال السنوات الماضية للوزير عمر سليمان من قبل عشاق الانقلابات العسكرية لكى يتقدم ويتولى المسئولية. لكن ظهر جليا أن سليمان إما زاهد فى السلطة أو غير قادر عليها. وفى الوقت نفسه لم يكن هناك اى امكانية لظهور جنرال عسكرى فى القرن الواحد والعشرين على شاشة التليفزيون لكى يعلن عزل الرئيس. لقد انقضى هذا الزمان. وهذا من حسن حظ مصر أن مبارك أمن نفسه جيدا من أى رجل ثان يمكن أن ينقلب عليه فبقى فى السلطة حتى أسقطه منها الشعب. فالفارق هائل بين أن يسقط مبارك بأيدى شعبه أو أن يزاح بواسطة انقلاب قصر.
الثورة المصرية لها انجاز تاريخى لا يجب أبدا أن يغيب عن أعيننا. لقد أسقطت ــ وللأبد كما أظن ــ نظام الرئاسة أو الزعامة الأبدية لجهاز الدولة وهو نظام لم تتخلص منه الإنسانية إلا منذ قرنين أو ثلاثة فقط. النظام الأقدم فى مصر والعالم هو النظام الملكى الأبدى الذى يقوم على الحكم المطلق لفرد طوال حياته ولأحد أفراد عائلته من بعده. آفة النظام الملكى إذن أن رأس الدولة يظل فى الحكم إلى أرذل العمر إلا إذا شاء ربك، ومن ثم تدفع البلاد ثمن قيادة مترهلة وضعيفة للبلاد. يشهد بعض علماء التاريخ المصرى القديم على ذلك. فيقولون إن مصر كانت تزدهر عندما كان يحكمها فرعون قوى وشاب وأنها كانت تضمحل عندما يشيخ هذا الفرعون. رمسيس الثانى حكم مصر نحو 67 عاما، وقد تدهورت البلاد فى نهاية عهده بعد أن كانت فى أوج قوتها وحيويتها فى بداية حكمه. بيبى الثانى أيضا حكم مصر نحو 90 عاما وترك البلاد فى حالة يرثى لها.
لم تتغلب الإنسانية على مشكلة القائد الأبدى لجهاز الدولة إلا من خلال إبداع نظام الملكية الدستورية، الذى يقلص من سلطات الملك ويعطى بعضها لرئيس وزراء منتخب يتم تغييره بشكل دورى. لكن حتى فى النظم الملكية الدستورية يظل للملك وظائف مهمة وتعانى البلاد عندما يعجز عن أدائها. الفيلم الامريكى «خطاب الملك» الذى خرج العام الماضى والذى روى قصة الملك جورج الخامس الذى تولى عرش بريطانيا العظمى أثناء الحرب العالمية الثانية يلخص المشكلة. فالملك كان يثأثئ ولا يستطيع النطق بعبارة متصلة، فى الوقت الذى كانت بريطانيا تنتظر خطاب الملك لكى يعلن الحرب على المانيا ويشحذ همم الشعب لكى يقاتل. ومن هنا فإن النظام الجمهورى الذى يبدل الرئيس كل عدة سنوات هو إنجاز سياسى إنسانى باهر بكل المقاييس.
الإنجاز القاطع الذى لا يمكن الرجوع عنه لثورة يناير هو الضربة القاصمة التى تعرض لها نظام الرئاسة الأبدية لجهاز الدولة. بهذا المعنى يمكن القول إن نظام مبارك قد سقط وأن عودته شبه مستحيلة. والحقيقة أن مبارك لم يبتدع نظام الرئاسة الأبدية الفردية لحزب الأغلبية أو لجهاز الدولة وإنما ورثه من التاريخ السياسى الحديث لمصر فى عهدى حزب الوفد وثورة يوليو. سعد زغلول ظل رئيسا للوفد حتى مات. وكذلك مصطفى النحاس وكذلك فؤاد سراج الدين. وكانت زعامتهم للوفد فردية شبه مطلقة. جمال عبدالناصر أيضا ظل رئيسا حتى مات، وكذلك السادات. فى الحقيقة نظام يوليو لم يشيد جمهورية حقة. فالحكم الأبدى وحتى الوفاة انتقل من الملك إلى الرئيس. الفارق فقط هو أن خليفة الحاكم ليس ابنه أو من العائلة الملكية العلوية، وإنما كان من «العائلة العسكرية». بل إن هشاشة نظام يوليو الجمهورى فى آخر مراحله جعلته يحتاج إلى العودة بشكل غير رسمى إلى الملكية والتى بمقتضاها أصبح ولى العهد ــ جمال مبارك ــ الساعد الأيمن لأبيه.
المصريون اليوم مختلفون فى كل شىء وأى شىء إلا شيئا واحدا. إنه لن يأتى رئيس لمصر يظل فى الحكم بلا سقف زمنى. لم يتطلب تعديل المادة 77 من الدستور (الذى قصر مدد حكم الرئيس على مدتين فقط) إلى أى نقاش أو جدل مجتمعى. فهناك إجماع على ذلك. لقد حققت ثورة يناير ما أجمع المصريون ــ باستثناء مبارك ومجموعته ــ على حتميته. أليس القضاء المبرم على الحكم الفردى الأبدى إنجازا عظيما لثورة يناير؟ حسنا. تقولون إنه غير كاف وأن طموحاتنا فى الثورة كانت أكثر من ذلك بكثير. بالطبع.. والأمر ما زال يحتاج إلى نضال طويل. لكن لا يجب بأى حال من الأحوال أن ننسى أن تعديل نظام اختيار رئيس الجمهورية ودخول الشعب المصرى كطرف فيه بعد أن كان كل رئيس يعين خلفه هو زلزال كبير تعرضت له الديكتاتورية فى مصر، وهو منفذ للشعب لكى يقيم نظاما سياسيا جديدا ولكن يضع فى سدة الرئاسة من يستحق أن يقود مصر ما بعد ثورة يناير.