هذه حالة حرب معلنة، بلا حشود عسكرية أو حركة دبابات.
لا القانون الدولى يبيح إجراءاتها ولا القواعد الدبلوماسية تبررها.
كل شىء مستباح وكل حق مهدر.
تركيع الفلسطينيين بالضغطين السياسى والاقتصادى هدف أول، وفرض «صفقة القرن» بلا شريك فلسطينى أو جلوس على مائدة تفاوض وفق أى مرجعيات هدف ثان.
هكذا تبدو الصورة من قصف سياسى إلى آخر، من نقل السفارة الأمريكية للقدس المحتلة إلى إغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية فى واشنطن.. ومن قصف اقتصادى إلى آخر، من إحكام الحصار على غزة والسلطة الفلسطينية إلى وقف تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا» التى تقدم الخدمات الصحية والتعليمية لمن عانوا ويعانون شظف الحياة فى مخيمات اللجوء.
تستند الحرب المعلنة على ما يسميه الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» سلام القوة.
التعبير نفسه إعلان حرب.
وتعمل خطتها على خلق الحقائق على الأرض والاستثمار السياسى فى شبه انهيار العالم العربى، الذى ترك الفلسطينيين وحدهم تقريبا يواجهون أشرس حرب يتعرضون لها منذ نكبة (1948).
كل خطوة فى الحرب مقصودة وتمهد لما بعدها والفصل بينها خطأ فادح فى تقدير الموقف وتبعاته وتداعياته.
كان نقل السفارة الأمريكية أخطر ضربة لمفاهيم التسوية التقليدية التى تركت مصير القدس لمفاوضات الحل النهائى تحت الرعاية الأمريكية.
تقوضت المرجعيات والقرارات الدولية ــ كأنها حبر على ورق.
لم تكن ردة الفعل فى العالمين العربى والإسلامى ذات شأن فى ردع ذلك العدوان على أبسط قواعد القانون الدولى، ولا مثل قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذى أدان نقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة حاجزا دون مزيد من التغول الأمريكى على ما تبقى من حقوق فلسطينية.
إنه التماهى مع المشروع الصهيونى فى أكثر صياغاته عنصرية وتشددا.
طلبت الإدارة الأمريكية التسليم بـ«صفقة القرن» دون أن تعلن بنودها وما تسرب كان كافيا لتعبئة الرأى العام الفلسطينى ضدها.
لم يكن بوسع أى طرف فلسطينى أن يوافق على التنازل عن القدس، أو يقبل ضم الكتل الاستيطانية فى الضفة الغربية إلى الدولة العبرية، أو التخلى عن حقوق اللاجئين فى العودة إلى ديارهم، وإلا فإنها «الخيانة» ــ بتعبير «محمود عباس» رئيس السلطة الفلسطينية الذى لا يمكن وصفه بالتشدد.
من ناحية واقعية ماتت «صفقة القرن» إكلينيكا، فلا صفقة ممكنة إذا لم يتوافر لها شريك فلسطينى ويرفضها أصحاب القضية كلهم.
ومن ناحية واقعية ثانية يجرى العمل على تنفيذها على الأرض بغض النظر عن وجود الشريك ومستوى الرفض.
ومن ناحية واقعية ثالثة فإن الدول العربية التى أبدت استعدادا معلنا للدخول فى عمليات تطبيع اقتصادية واستخباراتية وعسكرية مع إسرائيل دون أى التزام بالمبادرة العربية التى تنص على التطبيع الشامل مقابل الانسحاب الكامل من الأراضى العربية المحتلة عام (1967) شبه توقفت عن مثل هذا الانخراط خشية تداعياته على شرعية نظمها.
لا يوجد غطاء سياسى أو أخلاقى بأى درجة يسوغ التسليم للإسرائيليين بكل شىء وحرمان الفلسطينيين من أى شىء يستحقونه وفق القانون الدولى.
ما بين الجموح الأمريكى والممانعة الفلسطينية يبدو العجز العربى فادحا.
فى الحرب المعلنة هناك إجراءات يمكن التغلب عليها بصورة أو أخرى، مثل وقف حصة الولايات المتحدة فى «الأونروا» التى تبلغ (370) مليون دولار، فقد عرضت دولا أوروبية مثل ألمانيا زيادة حصتها، كما يمكن لأى دولة نفطية أن تسد العجز المالى.
الأوربيون يخشون التبعات الأمنية للخنق الاقتصادى لملايين اللاجئين.
والدول العربية تبحث عن إبراء ذمة دون صدام مع الإدارة الأمريكية.
وهناك إجراءات ذات طابع رمزى مثل إغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية فى واشنطن، إذ إن الاتصالات مجمدة بين السلطة الفلسطينية والإدارة الأمريكية على خلفية نقل سفارتها إلى القدس المحتلة والتلويح بالانقلاب على رئيسها «محمود عباس».
الأخطر ما يستهدف تنفيذه على الأرض بقوة الأمر الواقع.
وقف تمويل «الأونروا» ليس هدفا بذاته بقدر ما هو تمهيد بالنيران لإلغاء قضية اللاجئين وحق العودة.
بعد (70) سنة من النكبة يراد نسف البنية القانونية التى تثبت الحق الفلسطينى لشعب شرد بالسلاح والترويع خارج أرضه ومن حقه العودة إليها وفق القرارين الدوليين (194) لسنة (1948) و(513) لسنة (1952)، أو الحصول على تعويض لمن لا يرغب بالعودة.
وفق أرقام الأمم المتحدة فإن أعداد اللاجئين المسجلة تتجاوز الـ(5) ملايين فضلا عن أعداد كبيرة أخرى هاجرت إلى الولايات المتحدة وكندا واستراليا وأوروبا وأمريكا اللاتينية وغيرها وأغلبهم حصلوا على تعليم متقدم.
ووفق التقدير الإسرائيلى، الذى تتبناه الإدارة الأمريكية، فإن أعدادهم لا تتجاوز نصف المليون.
من هو اللاجئ؟
الذى أجبر مع أسرته على مغادرة بيته وأرضه والحق ينسحب على أولاده وأحفاده، أم الطاعنين فى السن وحدهم الذين عاصروا النكبة؟
لا توجد سوية إنسانية تقبل مثل هذا التنكيل، فيما يصدر قانون بذات التوقيت عن الكنيست الإسرائيلى يعلن «قومية الدولة» ويضفى أحقية اكتساب جنسيتها لأى يهودى فى العالم دون أن يكون ولد فيها أو عاش يوما واحدا.
وقد كانت تصريحات مستشار الأمن القومى الأمريكى «جون بولتون» التى توعد فيها المحكمة الجنائية الدولية بملاحقة قضاتها ومدعيها العامين فى حال استهدفت جرائم الحرب التى ارتكبتها بلاده فى أفغانستان، أو الجرائم التى ترتكبها إسرائيل ضد الإنسانية فى فلسطين داعية للتساؤل عما يمكن أن يجره أمراء الظلام الذين يحكمون البيت الأبيض الآن من أزمات وحروب على العالم كله، وليس الفلسطينيين وحدهم.
كيف يمكن أن تمضى الحوادث فى هذا النوع من سلام القوة؟
التصعيد مؤكد ومن بين أسبابه قرب انتخابات التجديد النصفى للكونجرس الأمريكى فى نوفمبر المقبل.
«ترامب» المأزوم يسعى إلى تصويت قاعدته الانتخابية المتعصبة لحزبه الجمهورى حتى لا يختل الميزان فى الكونجرس ويجد نفسه تحت إجراءات العزل من منصبه.
لكن ماذا بعد الانتخابات الأمريكية؟
الطرق مغلقة مهما تصاعدت الضغوط والإجراءات وشدة القصف.
حل الدولتين مستبعد تماما بالنظر إلى الاستهتار بأى مرجعيات دولية فضلا عن غياب أى شريك فلسطينى.
وحل الدولة الواحدة مستبعد كليا، فلا يعقل أن يوافق غلاة العنصريين فى الإدارة الأمريكية والحكومة الإسرائيلية على دولة لكل مواطنيها تعلى حقوق المواطنة للعرب واليهود على السواء.
هذا وهم كامل.
كما أن إقصاء الفلسطينيين بكتلتهم السكانية الكبيرة فى فلسطين التاريخية ــ الضفة الغربية وغزة وداخل الخط الأخضر وهم كامل آخر.
الحقائق الديموجرافية بكل حمولاتها السياسية والإنسانية لها كلمة أخيرة فى أى حسابات مستقبلية أيا كانت غطرسة القوة.
لا الترحيل الجماعى ممكن ولا العنصرية المفرطة تؤسس لأوضاع مستقرة.
فى نهاية الحرب سوف تجد إسرائيل نفسها فى مأزق لا مخرج منه، حيث الكتلة البشرية الفلسطينية.
أفضل خيار سياسى ممكن التقدم إلى المصالحة الفلسطينية باعتبارها مسألة حياة أو موت لا تحتمل الإرجاء، وإعادة بناء منظمة التحرير ممثلة لوحدة الشعب والقضية وحل السلطة حتى يمكن طرح القضية على وجهها الصحيح: سلطة احتلال وشعب يقاوم.