لا يكفى أن يقول الشيخ محمد عبدالله الخطيب مفتى جماعة الإخوان المسلمين إنه لا يوجد فى مؤلفات الإخوان، أو أقوالهم ما يشير إلى أنهم جماعة المسلمين، لكى نعتبر أن اتهام مفتى الجمهورية للجماعة.. بأنهم يفكرون بهذه الطريقة كأن لم يكن، لأن الشيخ الخطيب هو سيد العارفين بأن لسان الحال، أى الممارسة أبلغ من لسان المقال أى المؤلفات والأقوال المعلنة والمدونة ومنها قول الشيخ الخطيب أيضا «إن الجماعة التى تقول إنها جماعة المسلمين هى جماعة أصابها التخريف والجهل»، إذ كيف يضمن مفتى الإخوان وقياداتها أنه ليس هناك من بين الأعضاء والقيادات من أصابهم التخريف والجهل؟ لاسيما ونحن نتحدث عن تنظيم أو حركة سياسية جماهيرية ارتكبت عبر تاريخها الطويل أخطاء قاتلة بشهادة أكبر القيادات والعقول فيها، سواء كانت تلك الشهادة فورية أو بأثر رجعى بعد فوات الأوان.
ألم يصف مؤسس الجماعة المرحوم الشيخ حسن البنا قتلة النقراشى باشا فى حينها بأنهم ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين.. وذلك على سبيل التبرؤ من فعلتهم.. مع أنهم كانوا إخوانا وكانوا مسلمين؟
ألا تتبرأ الجماعة حاليا من تيار مفكرها الراحل سيد قطب رحمه الله الذى قرر جاهلية المجتمع الحديث، وحكم عليه بالكفر فى أكثر صور اعتقاد الإخوان المسلمين تطرفا بأنهم وحدهم جماعة المسلمين، وليسوا مجرد جماعة من المسلمين؟ وما الذى يضمن ألا يتكرر ذلك، لاسيما إذا تولى الإخوان السلطة، وأصبحوا هم المرجعية الأولى والأخيرة للحكم بشرع الله وباسمه؟
لكننا بدلا من الاستطراد فى الاقتباس من أقوال الإخوان وخصومهم، وفى سرد الوقائع الجزئية نقترح أن نعود إلى الأصل النظرى الأول للخلاف بين رؤية الشيخ على جمعة مفتى الجمهورية، ورؤية الشيخ محمد عبدالله الخطيب مفتى جماعة الإخوان، باعتبار أن هذا الخلاف هو من وجهة نظرنا ما يفرق بين جماعة الإخوان وبين جميع غير الإخوانيين فى المجتمع المصرى، من ناحية أخرى وبعبارة أخرى فإن هذا الخلاف هو الذى يكشف لنا عن نقاط الصدام وأسبابه بين قوى مجتمعية مهمة للغاية وليس السلطة فقط.. وبين جماعة الإخوان، وبالتالى يكشف لنا عن الأمراض المزمنة للجماعة، وأسباب تحول هذه الأمراض إلى حالة مستعصية على الشفاء.
هذا الأصل الأول للخلاف هو أن جماعة الإخوان نشأت نشأة شمولية فهى تيار فكرى ثقافى، وهى حركة جماهيرية وهى تنظيم حزبى أو شبه حزبى وهى جمعية دينية، وكما أن الظرف التاريخى الذى نشأت فيه الجماعة كان حافلا فى مصر والعالم بالحركات أو التيارات أو التنظيمات المماثلة، وبينما اندثرت التيارات أو الحركات الأخرى، بقيت حركة الإخوان، وهذا مظهر قوة وتعبير عن حاجة مجتمعية بلا شك، لكن الإخوان، لم ينجحوا فى حل معضلات النشأة، فلم يجدوا صيغة أو صيغا للفصل والتفاعل بين المستويات، أو المكونات الأصلية العديدة للظاهرة بحيث يستطيع التنظيم الحزبى مثلا أن يلبى مطالب الاستحقاقات السياسية فى إطار ظرفها المحلى أو الإقليمى أو الدولى، دون أن يكون محكوما بطريقة جامدة برؤية فقهية هى فى الأصل اجتهاد لفرد أو لمجموعة، ودون أن تكون الاستجابة السياسية مقيدة بضغط كتلة جماهيرية قد يغلب عليها فى ظرف بعينه التطرف لأسباب غير دينية فى الأصل، ولكن لأسباب حزبية أو غيرها.. والأمثلة على ذلك كثيرة ومنها ــ على سبيل التوضيح فقط ــ أن الإخوان ظلوا أسرى صراعهم الفكرى مع الشيوعيين فترة طويلة، مما أثر على موقفهم من بعض القضايا مثل معارضتهم لتحديد الملكية الزراعية فى بدايات ثورة يوليو، مع أنهم كانوا من المطالبين به من قبل، كذلك ظلوا طويلا يرفضون ويتهكمون على سياسات ضبط النسل نكاية فى نظام جمال عبدالناصر وها هم الآن جميعا يمارسونه مثل غيرهم من المصريين مسلمين وغير مسلمين.
هذه مجرد أمثلة.. للتوضيح كما قلنا، ولكنها تدخلنا إلى نقاط الصدام الحالى بين الإخوان وبين غيرهم من قوى المجتمع وليس بينهم وبين السلطة فقط وذلك بسبب ذلك المرض المزمن أى العجز عن إبداع صيغة للفصل والتفاعل فى ذات الوقت بين ما هو دينى، وما هو سياسى، وما هو حزبى، وما هو جماهيرى.. إلخ.
ولنبدأ بأهم نقطة حاليا بعد الخلاف الأصلى حول ما إذا كان الإخوان هم جماعة المسلمين، أو جماعة من المسلمين، أى لنبدأ بالأمن القومى المصرى، فالإخوان لا يزالون رغم مرور 28 عاما على اتفاقية السلام المصرية ــ الإسرائيلية عاجزين عن تحديد موقف مقبول محليا وإقليميا ودوليا منها، فهم يرفضونها منذ توقيعها وبذلك فإنهم يتصادمون مع أغلبية الرأى العام أولا، ومع المؤسسات المختصة بالأمن القومى المصرى ثانيا.. أى مع النواة الصلبة للدولة المصرية حسب التعبير المفضل لصديقنا الأستاذ ضياء رشوان وهذه النواة التى ترفض إخضاع الأمن القومى المصرى لحسابات غير مصرية أوحسابات متأثرة بقرارات غير مصرية مثل قرارات حركة حماس، أو حزب الله اللبنانى، كما أن هذه النواة الصلبة للدولة المصرية ترفض كذلك إخضاع الأمن القومى المصرى لاندفاعات عاطفية أو أيديولوجية لا تراعى توازنات وحسابات القوى الشاملة، والقوى العسكرية ومصادر التسلح.. إلخ.
وفضلا عن ذلك فإن من الواضح أن موقف جماعة الإخوان الرافض لمبدأ العلاقات السلمية مع إسرائيل (أو التردد على الأقل حول هذا المبدأ) مرفوض إقليميا ودوليا بما يؤدى إلى مخاطر لا يعلم إلا الله مداها فى حالة تولى الإخوان السلطة فى مصر.
ثم إن هذا الموقف الإخوانى من قضية السلام هو أيضا عرض للمرض المزمن أو العقدة المستعصية المتمثلة فى العجز عن إيجاد صيغة للفصل والتفاعل بين الدينى والسياسى، فالإخوان ينظرون إلى الأمن القومى المصرى فى سياق متجاوز لمصر كدولة لأن مثلهم الأعلى الدينى والسياسى هو دولة الخلافة الإسلامية ليس الأمن القومى وحده هو جبهة الصدام بين جماعة الإخوان وبين القوى الأخرى غير الإخوانية فى المجتمع المصرى، ذلك أننا لا نجد لا فى أقوال ولا أفعال الجماعة ما يطمئننا على علاقة صحية مع المفكرين، والمثقفين والفنانين والعلماء ولا مع رجال الأعمال والقطاعات التمويلية فى الاقتصاد، وكذلك حول العلاقة بين العمال ورأس المال، ناهيك عن الحريات العامة وحقوق المواطنة، وغير المسلمين.
لقد عجز الإخوان حتى الآن عن تقديم إجابات مقنعة، أو على الأقل مطمئنة حول هذه القضايا وغيرها رغم الاجتهادات الكثيرة هنا وهناك من بعض مفكريهم والمنتسبين اليهم، لأنها كلها محاولات فردية ولم تنجح بعد فى اطار واضح يفصل ــ كما سبق القول ــ بين الدينى والسياسى والجماهيرى والحزبى ويضمن فى الوقت نفسه التفاعل بين كل هذه المستويات، بما لا يشكل خروجا على قيم وأحكام الإسلام، ولكن بما لا يخلط الكلى بالجزئى، والمطلق بالنسبى، وبما لا يخل باستحقاقات العصر، وحقوق غير المسلمين التى هى ليست منحة من أحد ولكنها حقوق طبيعية غير قابلة للإنكار.
لقد قدم فضيلة مفتى الجمهورية مقتبسا عن الشيخ محمد الغزالى التشخيص والدواء لمرض جماعة الإخوان العضال فى عبارة تعد من جوامع الكلم.. فإذا كان الإخوان جماعة من المسلمين فليتحولوا إلى جمعية خيرية، أو إلى حزب مدنى ذى مرجعية إسلامية، أما إذا كانوا هم جماعة المسلمين.. فليبقوا على ما هم عليه.. حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا.