«كل ابن آدم خطاء.. وخير الخطائين التوابون»، لكن المسئول السياسى المؤتمن على مصالح الوطن واعتباره ليس ككل الخطائين، المفترض أن لديه مسارين للتوبة، الأول يخص ربه ولا يخص أحد سواه، «إن الله يغفر الذنوب جميعا»، والثانى حق للمجتمع الذى يجب أن يسأل ويحقق ويتأكد أن الأخطاء لم تصبه بضرر مادى فى ماله ومقدراته، أو معنوى فى سمعته واعتباره، قد يغفر المجتمع وينسى، لكن تبقى المساءلة السياسية قائمة، ويبقى الاعتذار واجب.
ديفيد بتريوس أحد أولئك الخطائين، الجنرال المهم فى تاريخ العسكرية الأمريكية، وقف بشجاعة معترفا بخطأ لا يخص عمله ومهنته مباشرة، لكن بفحص حيثيات استقالته ورسالته لزملائه فى وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، تجد العلاقة التى تربط بين سلوك «غير أخلاقى» فى حياة الرجل العاطفية، وبين اعتبارات مهامه كشخصية عامة وكموظف كبير يشغل أرفع موقع أمنى فى الولايات المتحدة.
استقال بتريوس بعد اعترافه بعلاقة عاطفية خارج إطار الزواج، كم أمريكى لديه علاقات كتلك؟ الحقيقة أنهم كثيرون، لكن كم منهم قائد عسكرى أو سياسى أو موظف رفيع أو حتى عضو كونجرس وحاكم ولاية، من حق المواطن أن يخطئ، وأن يتلمس الغفران من ربه أو من أهله، لكن السياسيون حين يخطئون، لابد أن يتلمسوا غفران المجتمع، وهو غفران لا يتأتى إلا باعتراف بالخطأ وتحمل مسئوليته بخروج يمنح المؤسسة أو الحزب فرص إعادة بناء اعتبارها سريعا.
فى بلادنا قبل الثورة وبعدها يضبط النواب والمسئولين مدانون بالكذب والفساد والأفعال الفاضحة، تختم أحكام القضاء صحائفهم الجنائية، وفى الوقت الذى تتوقع فيه أن يختفى هؤلاء أو يعتذروا، يباغتك خروجهم فى وسائل الإعلام للدفاع عن الحياء والشرف والأخلاق.
للصديق العزيز ياسر عبدالعزيز وهو راصد معتبر لأوضاع الإعلام والسياسة، أطروحة تسمى «نهاية زمن العار»، يرصد فيها تهاوى الإحساس المجتمعى بالعار وسط حالة البجاحة التى تسيطر على أولئك الملاحقين باتهامات كانت تعد عارا فى منظومة القيم الأساسية للمجتمع، لكنه لا يبرئ الإعلام من ذلك، حيث تسعى الوسائل الإعلامية وراء هؤلاء ومع الإلحاح حول ظهورهم إما أن يجرى غسل لسمعتهم أو اعتياد مجتمعى مذهل مع ما اقترفوه، يحكى لك كيف زادت شهرة ونجومية راقصة ورجل أعمال بعد تسرب مشاهد فاضحة لهما، فى مجتمع كانت واقعة كتلك كافية باختفائهما وانزوائهما.
الآن لديك نواب يتهافت حولهم الإعلام يتحدثون عن الحياء وهم مدانون أخلاقيا، وأناس يظهرون دون مبرر إلا لأنهم شتامون ينطلقون من اتهام الناس فى عقائدهم إلى الطعن فى أعراضهم.
الأرجح أنك تعتقد أن منظومة القيم الغربية كان يمكن أن تؤمن لبتريوس أن يتمسك بموقعه، وأن يخاطب الناس بأن أموره العاطفية شأنه، وليست شأن أحد سواه، والعكس لدينا فى مجتمعات يقولون إنها «متدينة بالفطرة» لكن الحقيقة أن الإحساس بالعار، وما يستتبعه من مسؤولية أخلاقية وسياسية، مازال قائما فى مجتمعات «متحررة»، فيما انتهى زمنه هنا بعد أن انتصرت «البجاحة».