عُرْسٌ و لِمَ لا ..؟ و قد كنت من شهود العيان عليه خلال الفترة الأخيرة .. فى الجزائر موطن البهجة والوجع. بهجة تلمع حيث الفرح والسرور، ووجع أو أوجاع تترى حيث يسمع الأنين وتُحَسّ مشاعر الألم. فذلك ما رأيته بين مدينة الجزائر عاصمة الوطن، ومدينة قسنطينه عاصمة الشرق الجزائرى، وما بينهما على حدود المدن الزاهية وعلى تخوم الجبال الخضراء، من "البليدة" و "بو مرداس" إلى جوار "سطيف" وطريق "عنّابة"، مروراً من بَعد إلى طريق "باتنه" حاضرة الهضاب العليا، حيث قضيت بها سنين عدداً فى أواسط الثمانينات من القرن المنصرم.
شباب من طلبة للعلم ومن غيرهم، وكهول ومن دونهم، فى بقاع الأرض الجزائرية وأركانها الأربعة، تدوّى أصواتهم المجلجلة الحبيبة "نداء بالشعار الأثير" الشعب يريد التغيير" – "فاشهدوا...." ومن حول ذلك عناوين عريضة، الجزائر تقول لا.. (للعهدة الرئاسية الخامسة).
وهكذا كان .. فما هي إلا عشية أو ضحاها حتى وصلت الأصوات إلى بعض المسامع وانفسح طريق للتغيير. فلماذا؟ وما هذا الذى يجرى وجرى؟ ذاك حديث الوجع والألم..
فما الجزائر سوى بلد عربى مثل سائر بلدان الوطن العربى الكبير يمر بمرحلة انتقال طويلة الأمد، ثقيلة الوقع، بطيئة الحركة، لولبية المسار بين علو وهبوط، ثم محاولة للقيام مرة أخرى بكل ما فى ذلك من جهد ومن أسى.. وما بين مشاعر اليأس والرجاء، نعيش الليل والنهار، نتعلق بأمل يكاد يكون قبضة اليد ثم يروح، وقنوط يطاول الأفق المرئي من بعيد، وبالأحرى من قريب.
وذلك مرض عضال ليس له عَرَض واحد بل أعراض عديدة، نراها فى أشكال متنوعة وبدرجات متفاوتة فى مختلف الدول العربية، وتجد لها تجسيدا ظاهرا فى آخر حالة نعاينها اليوم وهى الحالة العربية – الجزائرية.
•••
منذ استقلال الجزائر في الخامس من يوليو 1962 وارتقاء مليون ونصف مليون شهيد، من شعب لم يكن يزيد تعداد ساكنيه عن ثمانية ملايين نسمة تقريباً، وعلى مدى أكثر من خمسة عقود، كانت هناك إنجازات وإخفاقات. فى الإنجاز: دولة وطنية تسعى إلى التنمية، بأعلام ظاهرة في عديد المجالات. ومن الإخفاقات تجد عديداً أيضاً، ونرصد البعض من هذه وتلك فيما يأتي من سطور.
من إنجازات التجربة الجزائرية عموماً، النجاح فى تعريب "المحيط" الاجتماعى والمنظومة التعليمية حتى المرحلة الجامعية. وقد شبّ جيل أو جيلان حتى الآن خلال مرحلة ما بعد الاستقلال، يجيد العربية مخاطبةً وكتابةً إلى حد بعيد، بالإضافة إلى اتخاذها لغة الاتصال الاجتماعى الجامع لمكونات المجتمع الجزائرى (مع العلم بالوضع الخاص للأمازيغية). ومن المعالم المشهودة فى الحياة الثقافية، الإنتاج الأدبي والفكري والعلمي الغزير باللغة العربية حتى تفوقت هذه تفوقاً ظاهراً وحاسماً على الإنتاج المماثل باللغة الفرنسية التى غدت حبيسة بعض التخصصات الأكاديمية، شأن الجزائر في ذلك كشأن معظم دول الوطن العربي حيث يتم التعليم العالي فى تخصصات العلوم الطبيعية والطبية باللغة الإنجليزية. هذا فى حين أن تدريس العلوم الاجتماعية فى الجزائر على المستوى الجامعى وما يماثله يتم بالعربية، ومنها الاقتصاد والقانون (الحقوق) والعلوم السياسية والمحاسبة والإدارة والإعلام والحاسب الآلي، بالإضافة إلى الإنسانيات: من الفلسفة والاجتماع والألسنية (اللغات) والجغرافيا والتاريخ وغير ذلك.
ويرتبط بتعريب دراسة القانون مثلاً تعريب مرفق العدالة والمحاكم على مختلف المستويات، كما يرتبط بتعريب العلوم الإدارية والتجارية تعريب الإدارة العامة، وإن يكن إرث الفرنسية جاثما على دواوين الجهاز الحكومى والمرافق العامة.
ورغم الفساد الذى ينخر في مجالات الحياة الاقتصادية والإدارية والسياسية، كشأن عموم الدول العربية، وما يترتب على ذلك من تبديد الموارد وإهدار الإمكانات المتاحة، فقد استطاعت الدولة الجزائرية أن تشيّد شبكة حديثة للطرق التى تربط بين أرجاء أكبر الدول العربية من حيث المساحة (2,4 مليون كيلومتر مربع تقريبا)، وأن تقيم أحياء مدينية وقرى كاملة فى جميع ولايات القطر الجزائرى لتلبية الاحتياجات الإسكانية لمختلف الشرائح الاجتماعية إلى حد بعيد في دولة كبيرة الحجم السكاني نسبيا (أكثر من 40 مليون نسمة)، وإن لم تزل هناك ظاهرة "الأحياء القصديرية" والإسكان (الفوضوى) وسكانها من الفئات المهمشة. كما تقدم معظم السلع والخدمات الأساسية بأسعار مدعمة من قبل الدولة في حدود بعينها، برغم موجة (الخصخصة) التى طالت قلاع القطاع العام، وترتب عليها دمار واسع للهياكل الصناعية الكبرى التي شيدت وشغلّت من بعد الاستقلال وحتى مطلع الثمانينات.. وهذه قصة تستحق أن تروى فصولها المأساوية، شأن فصول القصة المأساوية فى مصر على إثر الانفتاح الاقتصادي منذ منتصف السبعينات.
غير أن الاقتصاد الجزائرى كبلد شبه نفطي، لم يقم بما يلزم لتحقيق (التنويع) للهيكل الإنتاجى، من خلال توسيع طاقات القطاع التصنيعى بما يكفل التحول من وضعية "الاقتصاد الريعي" أو شبه الريعي إلى اقتصاد إنتاجي مستديم.. بل ربما قد حدث العكس، من خلال ما يسمى بعملية "نزع التصنيع" التى عانت منها – لأسباب مختلفة – اقتصادات عربية ذات شأن سابق فى المجال الصناعى التحويلي وخاصة مصر والعراق، والمغرب، وإلى حد ما تونس. وارتبط بكل ذلك حدوث ارتفاع شاهق فى معدلات البطالة وخاصة بطالة الشباب وبصفة أخص شباب الخريجين من التعليم العالى والمتوسط ولاسيما من الإناث. وتلك قسمات مشتركة إلى حد بعيد بين الدول العربية عموما، وهو ما يتبين أيضا من شيوع انعدام العدالة التوزيعية للثروات والدخول، بفعل تماثل الهياكل الأساسية للمنظومة الاجتماعية والسياسية.
•••
وفى بلداننا العربية على العموم نجد نفس الظواهر التى تؤدى إلى "تشرنق" المنظومة الاجتماعية وانغلاقها: حيث التراتبية (الهيراركية) العالية للسلطة، والمتجذرة إلى حد بعيد فى أنماط الثقافة السياسية السائدة لدى الجماعات الاجتماعية، ثقافة الاستئساد بالسلطة، من طرف، والاستسلام لطاعتها، من طرف آخر.
وهناك أيضا "الزبائنية" المجتمعية والإدارية، حيث حلقات متسلسلة ضيقة من المنتفعين، المستفيدين من القرب إزاء مراكز السلطة. وترتبط بكل ذلك ظاهرة "المؤسسة الوحيدة" التى يمكن أن ينطبق عليها وصف "المؤسسة" بالمعنى الحديث نسبياً، وهى مؤسسة الأمن الخارجى والداخلى (الجيش والشرطة)، وإن شئت فقلْ: القوات المسلحة ومعها المؤسسة الأمنية– المخابراتية. وليست الدولة الجزائرية استثناء من كل ما سبق، وإنما هي حالة ممثلة للعموم العربى على كل حال.
أضفّ إلى ذلك: التضخم المفرط فى الجهاز الحكومى والأمنى، الذي يرتبط بأوثق الروابط مع ظاهرة جمود النظم السياسية، وتخلف آليات (الخلافة السياسية)، بمعنى انتقال السلطة عبر الأجيال وعبر الطبقات والشرائح الاجتماعية. وبذلك (تشيخ السلطة فى مواقعها) كما قيل، وتصاب المنظومة الإدارية – السياسية بمرض (تصلب الشرايين) إن صحّ التعبير. وفى ظل ذلك تكاد تختفي الآليات المفعّلة للتتابع المنتظم للأجيال والشرائح الاجتماعية على موازين السلطة بمختلف مستوياتها، وتتضاءل وظيفة "التنشئة السياسية" وتكوين "النخب"، ويصيب الضمور نسيج الوظيفة القيادية السياسية.
ويلاحظ أيضا، الضعف الشديد للمجتمع المدنى، بما فيه نقابات العمال والموظفين والمهنيين (استثناء عربي: الاتحاد الوطني التونسي للشغل) ويختفي الوسيط بين نخبة الحكم والجماهير. ومن ثم تسود حالة من الفوضى المنذرة بعدم الاستقرار المزمن حين يحدث غياب مفاجىء للقائد السياسي بحكم المرض أو الوفاة لأى سبب، أو لغير ذلك. وهذه حالة الجزائر فى اللحظة الراهنة.
إن عزوف النظم السياسية العربية عن ترتيب أمر الخلافة السياسية فى الواقع العملي، ودع عنك النص الدستورى أحيانا، كفيل بإحداث فجوات بعضها شديد الخطر؛ وليس ببعيد عن ذلك، ما يحدث من فراغ (دراماتيكى) تملؤه (قوى الفوضى) إلى حدود ممارسة العنف والإرهاب الموسّع كما جرى فى (العشرية السوداء) الجزائرية خلال عقد التسعينات، وكانت (تجربة أولية) -"بروفة" - لما جرى بعد ذلك بعشر سنين فيما أسماه الإعلام الغربي بالربيع العربي.
ولقد نجت الجزائر من أتون المحرقة العشرية لعقد التسعينات المنصرم، وساد "الوئام المدنى"؛ ولكن الآفات الأصيلة فى المنظومات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بقيت على حالها، وبقيت على نفس الحال فى دول الجوار العربى والإفريقى، لتبقى النار تحت الرماد، تطل برأسها بين حين وآخر، وخاصة حال حدوث أزمات طارئة، كما هو حال الأزمة الراهنة في الدولة الجزائرية. ولسوف يتم تفادى الأزمة، ولكن الأسباب الموجبة لتوالي الأزمات تحتاج إلى علاج ناجع عبر الزمن، ليس جزائرياً بالذات، ولكن عربياً على كل حال.
أستاذ في معهد التخطيط القومي _القاهرة
الاقتباس
لقد نجت الجزائر من أتون المحرقة العشرية لعقد التسعينات المنصرم، وساد "الوئام المدني"؛ ولكن الآفات الأصيلة في المنظومات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بقيت على حالها، وبقيت على نفس الحال في دول الجوار العربي والإفريقي، لتبقى النار تحت الرماد.