كانت واحدة من المتع القليلة لكن الجميلة لأبناء الطبقة المتوسطة المصرية فى فترة الستينيات تناول الآيس كريم من محل الأمريكين الشهير فى وسط القاهرة. وكان أطيب أنواع الآيس كريم التى يقدمها هذا المحل نوع اسمه ثلاثة خنازير صغيرة trois petits cochons، وهو عبارة عن ثلاث كرات ثلجية بنكهات الشيكولاتة والفانيليا والفراولة اللذيذة. وكثيرا ما سألت نفسها وهى تتخذ طريقها فى أمسيات الصيف مع أسرتها إلى محل الأمريكين عن سر تسمية الآيس كريم بهذا الاسم، ولم تكن تجد من تفسير لذلك إلا أن الكرات الثلاث كانت مكتنزة كما يكتنز لحم الخنزير، ثم لم تعد تنشغل بالتفسير فلم تعد تذهب إلى هناك، ولعل أيا من أبناء الطبقة المتوسطة لم يعد يذهب إلى هناك، فقد اختلفت مواصفات الطبقة المتوسطة كما انتشرت فى كل مكان محال الآيس كريم.
لماذا تَذكر هذه الواقعة التى مضى عليها ما يزيد على أربعين عاما؟ لا سبب ظاهريا لذلك إلا الإنفلونزا اللعينة التى اقترنت باسم الخنازير، وتلك اللوثة الإعلامية التى جعلتها منذ أسبوعين لا تشاهد برنامجا أو تقرأ تحقيقا أو تسمع خبرا إلا وفيه شىء عن تطور المرض وأعراضه والوقاية منه. ومع ذلك فإن وجود الخنازير قاسم مشترك بين الآيس كريم والإنفلونزا ليس هو السبب الوحيد على الأرجح لاستدعاء الذكرى، لكنها الأرضية الطائفية التى يجرى عليها النقاش بين المدافعين عن قرار ذبح الخنازير والمعارضين له، تلك الأرضية التى لم يَسِر عليها لحسن الحظ جيل الستينيات وإلا ما كان أبناؤه مسلمين ومسيحيين استعذبوا آيس كريم اسمه ثلاثة خنازير صغيرة. ليس فى الأمر مزحة، ففيه من السماجة ما يقتل أى روح للدعابة، لكن تعالوا نطلق خيالنا ونسأل أنفسنا هل يمكن فى أيامنا هذه أن يغامر تاجر بإطلاق مسمى «مجازيا على بضاعته» أيا ما كانت: ثلاثة خنازير؟... تابعوا جدل إنفلونزا الخنازير وسوف تعرفون الإجابة.
من اللحظة الأولى التى اقترنت فيها المرحلة الجديدة من تطور إنفلونزا الطيور باسم الخنازير، أَطَل بُعدُ طائفى كريه فى سجال الكتاب والسياسيين، وفى بعض الأحيان استتر من باب الحياء. فمع أن الفريقين أثارا فى نقاشهما قضايا تتعلق بتوقيت القرار وحسمه ورشادته وعلاقته بالسياق المصرى الذى يفرز أوبئة بالخنازير ومن دونها، إلا أنه فى خلفية المشهد كانت هناك إيحاءات طائفية بعضها يدخل فى حيز اللامعقول. خذ مثلا اعتبار البعض أن سرعة القرار دليل على طائفيته على أساس أنه لو لم تكن هناك استهانة بمصالح المسيحيين لوجب التريث. هى تفهم أن السرعة قد تكون دالة على العشوائية لكنها لا تبتلع الربط بين السرعة وبين التحيز الطائفى وإلا لكان عليها أن تعتبر أن قرار تعديل الحدود بين المحافظات المصرية بين عشية وضحاها هو نوع آخر من القرارات الطائفية، فهل هو كذلك؟ أو خذ دخول أقباط المهجر على الخط بضجيج كثير ومضمون ضحل مع أن صوتا لم يسمع لهم عندما زحفت إنفلونزا الطيور على مصر وكانت تتهدد أعدادا أكبر بحكم اتساع نطاق التعامل مع الطيور، فهل صارت الطائفة تعلو على الوطن؟ أو خذ الربط الميكانيكى بين تحريم لحم الخنزير على المسلم وبين ظهور الإنفلونزا مع أنه لم تثبت أى علاقة بين ما يتغذى عليه الخنزير ــ وهذا هو سبب التحريم ــ وبين إصابته بالداء، وإلا كيف نفسر أن بعض ما أحل الله أكله للمسلم حامل للداء؟
يغيب فى سجالات المنغمسين فى الشأن العام مصير الشخص صاحب الخنزير الذى يطاح برأسماله دون سابق إنذار فيٌترك خالى الوفاض، ويٌعنى المتحاورون بدين الشخص وملته وآخر ما يولونه اهتماما مستقبله ومستقبل أولاده. أما هى فلعل زمنا طويلا سوف يمر قبل أن تنسى وجه تلك المرأة التى أطلت عليها من إحدى القنوات الفضائية تتكلم فى تلقائية لا أبلغ منها ولا أفصح وتدعو الحكومة إلى أن تبدلها بخنزيرها عنزة تأخذ منها اللبن والجبن وتربى عيالها.
لو كان الأمر بيدها لوضعت هذا المطلب البسيط جدا والعادل جدا للمرأة الطيبة موضع التنفيذ، فغاية ما كانت ترجوه ألا ينقطع مصدر رزقها. ومن وجهة نظر المعنيين بالتفسير الدينى للأمور فإن ما تطلبه المرأة يدخل فى نطاق «الكسب الحلال»، ومع ذلك فإن أحدا لم يعر صيحة المرأة التفاتا.
يغيب عن أفق المنشغلين بالشأن العام أن ثمة آليات للتواصل بين مسلمى مصر ومسيحييها تجعل من المستحيل بناء تحليل للظواهر على أساس طائفى محض فليس كل مربى الخنازير مسيحيين، ولا كل المتعاملين مع لحومها غير مسلمين، فمثل هذا النقاء الوظيفى لا وجود له إلا فى الخيال. وليس من المتصور أن عمليات تهريب الخنازير لم تخلق شبكة من المنافع يتربح منها مسيحيون وأيضا مسلمون يقودون عربات نصف النقل بين الأحياء والمحافظات، ويسهلون تجاوز أكمنة المرور مقابل بضعة جنيهات، ويوفرون المأوى للخنازير الفارة من جحيم المجازر، ويستخفون بالعدوى من باب «قل لن يصيبنا».
هكذا تدخل إنفلونزا الخنازير نفق الأزمات المتكررة التى تعكس العلاقة القلقة بين مسلمى مصر ومسيحييها، ومع ذلك فإن هذه الأزمة ليست كأزمة الشخصية المسيحية فى الدراما المصرية ولا كأزمة الزواج المختلط أو قانون الأحوال الشخصية أو العنف الطائفى المتنقل، ليست مثلها لأن الخطر فيها جامع والمستهدف به الكل. وفى ظرف كهذا لا يعقل أن نرفع درجة التحذير بهذا الوباء إلى القمة وننخفض بمستوى الحس الوطنى إلى القاع، فالوعى الصحى لا يدور فى فراغ فله بيئته الاجتماعية الحاضنة.
ياااه، لشد ما تشتاق إلى مذاق آيس كريم الخنازير الثلاثة الصغيرة تزيل به صدأ الأيام الماضية تحس به علقما فى حلقها، تشتاق إليه ولا تثق فى أنه لا يزال موجودا بالاسم نفسه بعد كل تلك السنين التى كان التغير فيها تاما، لكن الرمز الذى يشير إليه يستحق منها أن تبحث عنه باهتمام وأن تخطف رجلها ذات ليلة لمحل الأمريكين فى وسط البلد، لعل وعسى.