فى تطور مثير، أقر البرلمان الألمانى مطلع الشهر الجارى، تعديلا دستوريا يتيح تخصيص استثمارات بمائة مليار يورو، لأجل تحديث الجيش. وتشكل تلك الخطوة الاستثنائية منعطفا تاريخيا فى سياسة ألمانيا الدفاعية، من عدة أوجه. أولها، عبورها بالإنفاق العسكرى السنوى، نسبة 2% من الناتج القومى الإجمالى، التى يناشد الناتو أعضاءه تخصيصها لنفقاتهم الدفاعية. وثانيها، مجافاتها قرابة سبعين حولا، من الارتكان الألمانى على الحماية الأطلسية، والمظلة النووية الأمريكية. أما ثالثها، فيتجلى فيما تستتبعه من أصداء استراتيجية مدوية على الصعيدين الأوروبى والدولى.
بعد يومين على انطلاق الغزو الروسى لأوكرانيا يوم 24 فبراير الماضى، طالب المستشار الألمانى، أولاف شولتز، بإنشاء صندوق خاص لتعزيز المنظومة العسكرية للبلاد، بغرض ضمان حرية ألمانيا وديمقراطيتها. وبينما اعتبر، شولتس، خطوته «نقطة تحول» فى السياسة الدفاعية لبلاده، استدعى الألمان شعارات قديمة، على شاكلة: «التصدى للخطر الروسى»، و«حماية القارة الأوربية»، و«الدفاع عن الأمن الأطلسى». أما المؤرخ فريتز ستيرن، فتحدث عن الدولة الألمانية السادسة، المستعدة للذود عن مبادئ الحرية والليبرالية، من خلال تفعيل القوة العسكرية الغاشمة، التى أمست أداة ضرورية لحماية الديمقراطية وردع المستبدين. كأننا بشولتس، وقد تأثر بما طرحه المفكر الاستراتيجى، روبرت كاغان، فى مقاله بدورية «فورين أفيرز «الأمريكية، المعنون «ثمن الهيمنة»، حول عدم تأقلم روسيا مع فقدان الإمبراطورية، كما فعلت بريطانيا وفرنسا.
بترحاب غربى لافت، قوبل التوجه الألمانى الجديد. فلقد أكد، شولتس، أن بناء جيش ألمانى قوى لن يخيف أوروبا، لاسيما بعد تخليه، منذ إعادة تأسيسه عام 1955، عن التقاليد التوسعية النازية، والتزامه قيم الجمهورية البرلمانية الديمقراطية، الكفيلة بتبديد أية هواجس. بدورهم، أدرك الأوروبيون أهمية تحمل ألمانيا، القوية عسكريا، نصيب الأسد من الأعباء الأمنية الثقال لقارة باتت تتهددها المخاطر. خصوصا بعد مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبى، الذى كانت تمثل ثقله العسكرى الوازن. فيما بددت الأزمة الأوكرانية، قلق الغرب من تحول ألمانيا إلى ركيزة أساسية للأمن الأوروبى. وفى تطور تاريخى، أعلنت دول شرق أوروبا، التى كانت ضحية للنزعة الامبراطورية النازية، أن توجسها من سكون ألمانيا، أصبح يفوق تخوفها من صحوتها. وعلى الضفة الأخرى للأطلسى، توارت الشكوك الأمريكية إزاء «الصحوة الألمانية»، التى طالما استنفرت الأمريكيين، طويلا، للتفانى فى إعاقتها. ومع تسارع وتيرة المساعى الروسية لتغيير معادلة الأمن الأوروبى، توسلا لنظام عالمى متعدد الأقطاب، اضطرت واشنطن إلى تقبل شروع الجيش الألمانى فى تطوير قدراته القتالية ومنظوماته التسليحية «التقليدية»، حتى يغدو درعا وسيفا للقارة العجوز فى مواجهة الأطماع الروسية.
بفيض ارتياب، يستقبل الروس عودة ألمانيا إلى العسكرة. فبعدما اعتبروها مصدر تهديد لأمن بلادهم، أدانت موسكو مساعى برلين لإعادة التسلح، واستحضار دعايات واستراتيجيات الماضى النازى، بكل ما تمخضتا عنه من كوارث ومرارات. وتترى، انهالت الاتهامات الروسية على برلين، بزعزعة الأمن الأوروبى، استنادا إلى أن معاودة ألمانيا تسليح جيشها، سيؤجج سباقات التسلح، ويفاقم مخاطر التصعيد والتوتر الاستراتيجيين. وفى هذا السياق، استدعت موسكو فصولا من تاريخها الصراعى مع الغرب وألمانيا النازية، كان من أبرزها:
توظيف الغرب للنازية ضد الاتحاد السوفييتى: ففى كتاب أصدره قبل قليل، بعنوان: «من أجبر هتلر على مهاجمة ستالين؟!»، استعرض المؤرخ الروسى، نيكولاى ستاريكوف، تفاصيل ما اعتبره «مؤامرة»، حاكها الساسة الأنجلوساكسون، لدعم صعود، هتلر، وإشعال الحرب العالمية الثانية، توخيا لتحقيق هدف مزدوج. يتجسد شقه الأول فى القضاء على النظام الشيوعى السوفييتى، بأيدٍ ألمانية، والآخر فى احتواء الطموحات النازية. فبعدما تسلم هتلر السلطة عام 1933، تحدى العقوبات، التى فُرضت على ألمانيا بموجب اتفاقية فرساى عام 1919. فأقر التجنيد الإلزامى، وانبرى فى تطوير الجيش، وإحياء الصناعات العسكرية. ولم تتحرك الدول الغربية، قيد أنملة، لوقفه، حتى أنها تغافلت عن قيام الشركات الأمريكية ببناء مصانع للسلاح بألمانيا، وكذا تواصل واشنطن مع، هتلر، عن طريق، أرنست هستستانجل، ضابط المخابرات الأمريكية الذى ساعده فى تحرير كتابه المعنون «كفاحى». ذلك الذى أكد فيه: «أن عدوه فى الشرق هو الاتحاد السوفييتى». وحينما قام هتلر بضم النمسا، لم تعترض الدول الأوروبية، التى أرغمت تشيكوسلوفاكيا على تلبية مطالبه المتعلقة باقتطاع أجزاء من أراضيها، كما سمحت له بمهاجمة بولندا، لتمكينه من بلوغ الحدود السوفييتية.
الخطة البريطانية لمهاجمة الاتحاد السوفييتى:
أخيرا، كشفت صحيفة «تلغراف» البريطانية، عن خطة وضعها تشرشل، بعد أيام من استسلام ألمانيا واستيلاء الجيش الأحمر على برلين عام 1945. وعمدت الخطة، التى حملت اسم «لا يمكن تصوره»، إلى مهاجمة الاتحاد السوفييتى، بالتعاون مع الحلفاء الغربيين. حيث اعتقد، تشرشل، أن ستالين، لا يعتزم الانسحاب من دول شرق أوروبا، كما ينتوى التنصل من اتفاقات يالطا. ما يستوجب توجيه ضربة حاسمة للطموحات الروسية الإقليمية، تجنبا لحرب عالمية ثالثة، إثر تحول الجيش الأحمر إلى، قوة لا تقهر، تبتلع بقية أوروبا، وتحبس الإنجليز داخل جزيرتهم. ونظرا لامتلاك الجيش السوفييتى قيادة محنكة وقدرات قتالية ضخمة، ارتأى العميد، جيفرى طومسون، القائد البريطانى الذى عُهد إليه بإدارة العملية، ضرورة توفير قوات إضافية، عبر إعادة تسليح وحدات من الجيش الألمانى والأمن الخاص «إس إس». وهو ما رفضه كبير المستشارين العسكريين لتشرشل، الجنرال، هاستينجز إسماى، الذى أقر باستحالة نجاح العملية، وبصعوبة تبريرها أخلاقيا للرأى العام الغربى. وبناء عليه، أُلغيت الخطة رسميا، ودفنت، منذ مطلع يونيو 1945، داخل ملف «سرى للغاية»، بعنوان: «روسيا: تهديد للحضارة الغربية».
الغزو الألمانى للاتحاد السوفييتى:
بينما كان ستالين يتلافى الصدام مع النازى عام 1941، كانت دول المحور تنسج خيوط «العملية برباروسا»، أو خطة غزو الاتحاد السوفيتى خلال الحرب العالمية الثانية، ضمن استراتيجية «النظام الجديد». فبذريعة تحضير روسيا لمهاجمتها، قررت ألمانيا توجيه ضربة وقائية استباقية ضد الجيش الأحمر، الذى اعتبرته مصدر تهديد للأمن الأوروبى. وفى كتابه «كفاحى»، أماط، هتلر، اللثام عن أطماعه فى غزو الاتحاد السوفييتى، لتوطين الألمان فى شطره الغربى، واستخدام السلاف عبيد سخرة بالمجهود الحربى لقوات المحور، إضافة إلى توفير الغذاء والطاقة للألمان، عبر الاستحواذ على الثروات السوفييتية من النفط والمنتجات الزراعية. وبتبنى هتلر، «الاستراتيجية الشرقية»، التى انتهجتها ألمانيا قبل ستمائة عام، تلاقت «عملية بارباروسا»، مع «الخطة النازية العنصرية». هنالك، أضحت الحرب ضد الاتحاد السوفييتى، صفحة فى سفر كفاح الشعب الألمانى لأجل الوجود، ونضاله التاريخى ضد«البربرية السلافية»، ودفاعه عن الحضارة الأوروبية ضد الغزو الموسكو ــ آسيوى، والبلشفية اليهودية». وفى 22 يونيو 1941، شنت دول المحور أعنف هجوم عرفه التاريخ، ضد الأراضى السوفييتية. لكن «العملية بارباروسا» فشلت، جراء صمود الجيش الأحمر، مقابل انتكاس القوات الألمانية، إثر تفشى الأوبئة، وتفاقم الجليد، وتأخر الدعم عبر خطوط إمداد طويلة وغير آمنة، داخل العمق الاستراتيجى السوفييتى.
تحريض بريطانى على استهداف موسكو بالنووى الأمريكى:
أوردت صحيفة «التايمز» البريطانية، أخيرا، اعترافا مثيرا لتشرشل، خلال حديثه مع المسئول العسكرى الأمريكى، جوليوس أوكس أدلر، الذى أدار صحيفة «نيويورك تايمز» الامريكية، عقب الحرب العالمية الثانية مباشرة. حيث أقر تشرشل، الذى كان زعيما للمعارضة البريطانية حينئذ، بتحريضه واشنطن على استهداف ثلاثين مدينة سوفييتية بقنابل نووية، حتى يرضخ ستالين لإملاءات الغرب، ويوقف الحرب الباردة. كما اعترف برغبته فى قصف روسيا والصين بقنابل نووية أمريكية، لإجهاض قدرتهما على مناكفة الغرب. لكن الولايات المتحدة رفضت هكذا مقترحات. الأمر الذى اضطر، تشرشل، إلى انتقاد سياسة لندن وواشنطن حيال موسكو، واصفا إياها «بالرخوة».
غبن الغرب للانتصار السوفييتى على النازية:
قبل أيام من احتفال موسكو بالذكرى الخامسة والسبعين لانتصارها على النازيين، نشر الرئيس، بوتين، مقالة مطولة بمجلة «ذا ناشونال انترست» الأمريكية، اتهم خلالها الغرب بغبن روسيا، عبر «إنكار» التضحيات الهائلة، التى قدمها السوفييت أثناء الحرب العالمية الثانية. واعتبر، بوتين، أن من شأن ذلك الغبن أن يشوه الذاكرة الإنسانية، ويعرقل المسار السلمى للعلاقات الدولية، الذى وضع الحلفاء لبناته عام 1945، علاوة على زعزعة أسس النظام الدولى، الذى أفرزته الحرب العالمية الثانية. وشجب الرئيس الروسى إصرار الأوروبيين، خصوصا البولنديين، على تحميل الاتحاد السوفييتى أوزار تداعيات اتفاقه الثنائى السرى مع هتلر، عام 1939، لتقاسم أوروبا الشرقية. ورفض بوتين قرار البرلمان الأوروبى بإدانة غزو بولندا وتقسيمها، مؤكدا أن الاتحاد السوفييتى لم يكن لديه خيار آخر، وقتئذ. خصوصا بعدما خضع البريطانيون والفرنسيون للنازيين بموجب اتفاقيات ميونيخ عام 1938، فيما نسفت بولندا فرص قيام تحالف ثلاثى بين باريس، ولندن، وموسكو، بتواطؤها مع هتلر قبل أشهر من غزوها.