فى حين خرج الآلاف فى محافظات مصر المختلفة يوم 8 يوليو يحملون مطلبهم لاستكمال الثورة، ما زال هناك الكثيرون يرفضون تحول هذا الخروج لاعتصام فى ميادين مصر المختلفة. ومع استبعاد من هم ضد الثورة من يومها الأول فى 25 يناير، تظل هناك أصوات تطالب بفض هذا الاعتصام بدعوى أن المطالب التى يرفعها المعتصمون سوف تأخذ وقتا لتتحقق ولا يجوز ان تتوقف «عجلة الإنتاج» عن الدوران فى هذة الأثناء، خاصة بعد أن وعد رئيس الوزراء فى خطابه بالنظر فى هذه المطالب والعمل على الاستجابة لها. وعلى هذا يصبح الإصرار على الاعتصام نوعا من التزيد الثورى على أحسن تقدير إن لم يكن فعل مناهض للمصلحة العامة فى أسوأ تقدير.
<<<
ما تغفله تلك الآراء والأصوات هى المطالب التى يرفعها الثوار فى ميادين مصر فى هذا الاعتصام ومحورية هذه المطالب لعملية استكمال الثورة. ففى حين أن المطالب التفصيلية متعددة فإنها يمكن إجمالها فى نوعين من المطالب: أولا، مطالب متعلقة بالأمن والعدالة الناجزة (مثل محاكمات الشرطة ورموز النظام، وإعادة الأمن فى الشارع على أسس جديدة تضمن احترام كرامة المواطنين، ووقف المحاكمات العسكرية للمدنيين). وثانيا، مطالب اقتصادية تضمن تحقيق العدالة الاجتماعية (حد أدنى للأجور، إعادة هيكلة سلم الأجور، موازنة عامة تنحاز إلى أوجه الصرف الاجتماعى فى التعليم والصحة والسكن). والحقيقة أن التركيز على هذين النوعين من المطالب (فى مقابل المطالب السياسية الإجرائية مثل موعد الانتخابات او وضع الدستور) هو ما يعطى هذا الاعتصام أهمية قصوى تتجاوز أهمية أى من الاعتصامات السابقة منذ سقوط مبارك فى 11 فبراير وبما يتجاوز تكلفته المحتملة على ما يسمى «عجلة الإنتاج» أو تعطيل المصالح اليومية للبعض. فهذان المطلبان هما صلب النظام الذى يطالب المصريون بإسقاطه منذ 25 يناير.
فنظام مبارك لم يكن يعتمد فقط على تزوير الانتخابات او تهميش الأحزاب السياسية وتضخيم دور رجال الأعمال، فهذه مجرد انعكاسات للب هذا النظام والذى يقوم على ذراعين متشابكين: اولهما سياسات الليبرالية الجديدة فى الاقتصاد والدولة، وثانيهما إمبراطورية أمنية تدير الحياة العامة (وفى أحيان اخرى تدير الحياة الخاصة) فى بر مصر. هذا النموذج الذى يسمى “policed neoliberalism” أو النيوليبرالية البوليسية، حول الدولة والاقتصاد فى اتجاه تركيز الثروة فى أياد قليلة والتعامل مع ما يفرزه هذا النموذج من عدم عدالة وتفاوت طبقى شديد باستخدام القمع الأمنى. وعلى مدى عقود لم يعد هذا النموذج مجرد قرارات فردية لمبارك أو حكوماته، ولكن استقر ليصبح نسقا إقتصاديا ــ سياسيا تقوم عليه مؤسسات الدولة والسياسات العامة. فتحول الاقتصاد لسياسات الاحتكار وضرائب هزيلة على الأرباح الرأسمالية والاقتصاد الترفى، وتوجه نحو قطاعات غير منتجة، وأصبحت هذه هى «عجلة الإنتاج» التى يتباكى عليها البعض الآن. وفى الوقت نفسه قام على حراسة هذا النموذج جهاز أمن أصبح فوق الدولة والمجتمع وتحكم فى كل شىء بدءا من الحياة الأكاديمية فى الجامعات وانتهاء باستخدام التعذيب بشكل يومى فى أقسام الشرطة، مرورا بملف الاحتقان الطائفى والحياة السياسية.
<<<
وعلى هذا، فحينما يطالب المعتصمون فى ميادين مصر الآن بمحاسبة جهاز الشرطة وعدم محاكمة المدنيين عسكريا فإنهم يطالبون بإرساء دعائم جديدة لمفهوم الأمن والعدالة القانونية واستخدام هذه المطالب كحصان طروادة لكسر هذا الصندوق الأسود المسمى بالمؤسسة الأمنية بشقيها الشرطى والعسكرى. فحتى هذه اللحظة، ورغم اقتحام مقار جهاز أمن الدولة واستبداله بما يسمى جهاز الأمن الوطنى، فنحن ما زلنا نجهل حجم جهاز أمن الدولة وأين ذهب ضباطه ومخبروه؟ وكيف ستتم محاكماتهم على جرائم استمرت عقودا؟ وكيف سنضمن أن جهاز الأمن الوطنى وحتى أقسام الشرطة لن تستمر فى اذلال المواطنين على نمط ما رأيناه خلال حكم مبارك وفى حوادث عدة منذ إسقاطه وحتى قمع المتظاهرين يوم 28 يونيو، وما هى آليات تغيير جهاز الأمن المركزى الذى طالما سحل المتظاهرين فى الجامعات والشوارع والذى رأينا احد افراده يرقص بالسنج يوم 28/29 يونيو؟ إن مطالب المعتصمين الآن بمحاسبة المسئولين عن الأمن فى هذا البلد هى البداية لإعادة هيكلة هذه المنظومة والإجابة عن تلك الأسئلة بشكل يؤسس لنظام سياسى وأمنى جديد.
وفى الوقت نفسه فإن المطالب الاقتصادية التى يرفعها المعتصمون أتت على خلفية موازنة عامة جديدة أسست على نفس مبادئ النظام السابق من انحياز لمصالح رأس المال الكبير على حساب مصالح الأغلبية من المصريين الذين لا يحصلون على أجركاف أو تعليم أو علاج آدمى. وغاب عن السياسات الاقتصادية أى تغيير فى شكل الضرائب أو أوجه الإنفاق العام بما يسمح بتغيير شكل «عجلة الإنتاج» لتحقق تنمية اقتصادية مبنية على العدالة الاجتماعية. إذا، فالاعتصام فى هذه الحالة ليس محاولة لوقف «عجلة الإنتاج» أو للمطالبة بما يسمى «مطالب فئوية» ــ مع التحفظ على هذا المسمى ومدلولاته ــ ولكن لتغيير نمط النمو الاقتصادى ليصبح أكثر عدالة وإنتاجا للمجتمع ككل وليس فقط لفئة صغيرة تدير الاقتصاد وعوائده لحسابها الخاص.
<<<
اعتصام التحرير وغيره من ميادين مصر فى هذه اللحظة هو ضرورة حتمية لتحقيق مطالب الثورة والشعب فى «عدالة اجتماعية» و«كرامة إنسانية»، عن طريق اقتصاد مختلف وجهاز أمنى جديد. إن دعم واستمرار هذا الاعتصام حتى تتحقق المطالب هو الضمانة الوحيدة لإحداث تغييرات هيكلية فى شكل الدولة والمجتمع. نحن فى لحظة فارقة لإرساء نمط جديد للحكم وليس فقط أشخاص جدد.