كان متوقعا أن تتجه الأوضاع العامة فى تونس نحو انفراجة تساعد على إخراج البلاد من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والتى أضيفت إليها أزمة كورونا، وذلك بعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية عقب وفاة الرئيس التونسى المخضرم والسياسى المحنك الباجى السبسى. ولكن ما حدث هو عكس هذه التوقعات حيث تصاعدت بدرجة ملحوظة الخلافات السياسية والدستورية بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، بل الأكثر من ذلك هو احتدام الخلافات والمناكفات داخل السلطة التشريعية ذاتها من ناحية، وبين رأسى السلطة التنفيذية ممثلة فى رئيس الجمهورية الرئيس قيس سعيد، ورئيس الحكومة هشام المشيشى من ناحية أخرى، ودخل دائرة الخلافات الاتحاد العام للشغل (العمال) التونسى. وراح كل طرف من هذه الأطراف يدافع عن موقفه، ويقدم ما يراه من مقترحات للعمل على الخروج من هذه الأزمة السياسية الحادة التى تمر بها تونس.
إن رئيس الجمهورية قيس سعيد، لم يتنازل عن موقفه الذى اتخذه منذ نحو ستة أشهر بعدم الموافقة على التعديل الوزارى الذى أجراه رئيس الحكومة هشام المشيشى، وشمل تغيير أحد عشر وزيرا، رفض رئيس الجمهورية تحديد موعد لأدائهم اليمين الدستورية أمامه رغم أنهم حصلوا على ثقة البرلمان. ويرى رئيس الجمهورية أن رئيس الوزراء لم يتشاور معه بشأن اختيار هؤلاء الوزراء الجدد من ناحية، كما أن بعضهم تحوم حوله شبهات فساد أو تضارب مصالح. ويتمسك رئيس الوزراء بموقفه وأن من صلاحياته اختيار الوزراء وعرضهم على البرلمان للتصويت بالثقة عليهم وأنه ليس من حق رئيس الجمهورية بعد ذلك عدم قبول أدائهم اليمين أمامه وفقا للدستور. وقد قدمت بعض المقترحات للتغلب على هذه الأزمة التى تؤثر سلبيا على عمل إحدى عشرة وزارة؛ ومنها تغيير الوزراء الذين تحوم حولهم شبهات فساد أو تضارب مصالح، أو إعادة تشكيل الحكومة كلها مع بقاء رئيس الوزراء والوزراء الذين أثبتوا كفاءة فى أدائهم ولا تدور حولهم شبهات. ولكن رئيس الوزراء متمسك بموقفه.
وقد انتقدت بعض قيادات حركة النهضة (إسلامية) رئيس الجمهورية موضحين أنه هو الذى اختار رئيس الوزراء هشام المشيشى بنفسه ولم يفرضه عليه أحد ومن ثم فهو ــ أى رئيس الجمهورية ــ مسئول عن عرقلة عمل الحكومة وإعاقة إحدى عشرة وزارة فيها عن أداء عملها على الوجه الأكمل. واقترحوا تشكيل حكومة سياسية للخروج من الأزمة التى تعيشها مؤسسات الدولة بدلا من الحكومة المستقلة الحالية. كما أنه يمكن إجراء تعديلات على الحكومة الحالية تشمل تغيير رئيس الحكومة ضمن موافقات سياسية. ولكن الكتل البرلمانية الداعمة للحكومة ومنها أغلبية حركة النهضة فى البرلمان تتمسك ببقاء رئيس الوزراء الحالى وذلك انطلاقا من أن تونس فى حاجة إلى استقرار سياسى فى ظل التحديات الاقتصادية والاجتماعية التى تواجهها.
بينما تطالب أحزاب المعارضة اليسارية برحيل الحكومة لأن حكومة هشام المشيشى قد انتهت فاعليتها ولم يبق أمامها إلا الرحيل، وأنه من المطلوب تشكيل حكومة سياسية من كل الأحزاب السياسية بما فيها بقية الأحزاب غير الممثلة حاليا فى البرلمان. ويلاحظ أن موقف المعارضة والتيار اليسارى يتفق مع موقف رئيس الجمهورية بالمطالبة بتغيير الحكومة الحالية.
كما أن الرئيس قيس سعيد يرى ضرورة تعديل النظام السياسى الحالى الذى يجمع بين النظامين الرئاسى والبرلمانى والأقرب للنظام الفرنسى حيث تتوزع السلطة التنفيذية ما بين رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية، حيث يميل إلى أن يكون فى التعديل المزمع سلطات أوسع لرئيس الجمهورية. ولكن حركة النهضة ترى أن الأولوية الآن هى العمل على الخروج من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والصحية، قبل التفكير فى التغيير السياسى أو منظومة الحكم القائمة، وهذا بمثابة رد غير مباشر على مقترحات رئيس الجمهورية.
وكان رئيس الاتحاد العام للشغل التونسى، نور الدين الطبوبى، قدم لرئيس الجمهورية مبادرة بإجراء حوار وطنى يشمل كل القوى السياسية والمهنية والنقابية فى تونس من أجل التوصل إلى صيغة للخروج من حالة التأزم السياسى التى تعيشها تونس حتى يتم التركيز على الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والصحية. وقد أعلن رئيس الجمهورية فى منتصف يونيو 2021 أثناء اجتماعه مع رؤساء وزراء ووزراء سابقين للتشاور معهم بشأن الأوضاع السياسية الراهنة فى تونس أنه على استعداد لإجراء حوار وطنى جدى يمهد لحوار آخر حول نظام سياسى وقانون انتخابى جديدين وإلى دستور حقيقى حتى يكون كل من تم انتخابه مسئولا أمام ناخبيه. كما أوضح راشد الغنوشى رئيس البرلمان أن رئيس الجمهورية قد قبل إجراء الحوار الوطنى، لكن يجب توضيح تفاصيل الحوار وشروطه قبل انطلاقه، وأنه يجب على الرئيس قبل إشرافه على هذا الحوار توضيح تفاصيله ومرتكزاته.
•••
وقد أثار موقف رئيس الجمهورية من مبادرة الحوار الوطنى التى قدمها الاتحاد العام للشغل التونسى غضبا بين أغلبية قيادات الاتحاد والتى طالبت بسحب المبادرة من رئيس الجمهورية. ولكن رئيس الاتحاد رغم إدانته تصريح رئيس الجمهورية الأخير والذى شكك فى الحوار الوطنى الذى قاده الاتحاد العام للشغل، مع الاتحاد التونسى للتجارة والصناعات التقليدية، ورابطة التونسيين للدفاع عن حقوق الإنسان، والهيئة الوطنية للمحامين التونسيين فى عام 2013 وأنه لولا هذا الحوار لما أمكن تجنيب تونس حربا أهلية كانت ستعصف بها بعد الاغتيالات التى طالت رموزا سياسية وأمنيين وعسكريين، واعتبر أن ما عبر عنه رئيس الجمهورية هو تشكيك متواصل فى المؤسسات والمنظمات الوطنية والأحزاب السياسية، وأن هذا تراجع منه عن التزامه بمبادرة الحوار الوطنى التى اقترحها الاتحاد من أجل إنقاذ تونس من الوضع الصعب الذى دفعت إليه الأطراف الحاكمة وأصبح يهدد كيان الدولة، ودعا رئيس الاتحاد رئيس الجمهورية إلى المضى قدما والقيام بدوره فى مبادرة الحوار السياسى، وأنه إذا تواصلت الأزمة فإنه يجب إعادة الأمانة للشعب التونسى بتنظيم انتخابات مبكرة.
وتجدر الإشارة إلى أن الهيئات التونسية التى أجرت الحوار الوطنى عام 2013 قد حصلت على جائزة نوبل للسلام لما حققته من عملية إنقاذ لتونس من الفوضى والعنف.
•••
ترى أغلبية القوى السياسية التونسية أن عدم اكتمال تشكيل المحكمة الدستورية وعدم توقيع رئيس الجمهورية على القانون الخاص بالمحكمة، أدى إلى غياب دور المحكمة الدستورية فى القيام بمهامها خاصة بالفصل فيما هو قائم من خلافات على مدى الصلاحيات بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء. وقد حدد مكتب البرلمان التونسى يوم 8 يوليو 2021 موعدا لانتخابات الثلاثة أعضاء المتبقين لاستكمال أعضائها وعددهم 12 عضوا، أربعة ينتخبهم البرلمان، وأربعة يعينهم رئيس الجمهورية، وأربعة يعينهم المجلس الأعلى للقضاء. ويخشى أنه إذا وافق البرلمان على اختيار ثلاثة قضاة فإن ذلك لن يحل المشكلة إذ إن رئيس الجمهورية قد يرفض استقبالهم لأداء اليمين القانونية كما حدث فى التعديل الوزارى، ومن ثم تبقى المحكمة الدستورية معطلة عن عملها، ومن مهام المحكمة صياغة الدستور، وحماية الحقوق والحريات، ومراقبة دستورية مشروعات القوانين المطروحة على البرلمان، وحسم الخلافات بين رئيسى السلطة التنفيذية (رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء)، وإمكانية النظر فى مطلب عزل رئيس الجمهورية من منصبه.
ومن ناحية أخرى أبدت عدة أحزاب سياسية شكوكها حول الاتهام بمحاولة تسميم رئيس الجمهورية قيس سعيد، عن طريق رسالة مسممة وذلك خلال شهر مايو 2021 كما شككت فى تصريح لرئيس الجمهورية خلال لقائه مع رؤساء وزراء ووزراء سابقين بالقول بأن من كان وطنيا مؤمنا بإرادة شعبه لا يذهب إلى الخارج سرا بحثا عن طريقة لإزاحة رئيس الجمهورية بأى شكل من الأشكال حتى ولو بالاغتيال. وطالبوا الرئيس والأجهزة الأمنية بالإفصاح بمزيد من المعلومات عن هذا الاتهام الذى ينظرون إليه نفس نظرتهم إلى ما قيل عن الرسالة المسممة.
وقد أعلنت وزيرة العدل أمام البرلمان أن التحقيقات التى أجرتها الأجهزة الأمنية والطبية المختصة فى قضية الرسالة المسمومة التى كان يشتبه بأنها محاولة لاغتيال الرئيس قيس سعيد، جاءت سلبية وتنفى هذه الشبهة. وتناولت الوزيرة موضوع موجات إعفاء أعضاء القضاء من مهامهم بناء على الشبهات قد تكثفت منذ عام 2012 حتى الآن، وهو ما قد يفضى إلى إلحاق إضرار بالقضاء بدلا من إصلاحه.
ومن ناحية أخرى تعددت اعتصامات كتلة الحزب الدستورى الحر برئاسة عبير موسى، فى البرلمان سواء فى مقره الرئيسى أو الفرعى، وتعطيل بعض جلساته، وكان آخر اعتصام لهذه الكتلة المكونة من 16 برلمانيا فى البرلمان احتجاجا على تمرير اتفاقية تسمح بفتح مقر لصندوق قطر للتنمية فى تونس، وهو ما أدى إلى تلاسن واعتداءات لفظية متبادلة تطورت إلى أن قام النائب الصحبى سمارة، بتوجيه صفعتين متتاليتين لعبير موسى، وهو ما أثار غضب واحتجاج العديد من الأحزاب السياسية والجمعيات الحقوقية ومنظمات المجتمع المدنى، واعتبار أن ما حدث اعتداء وإهانة للمرأة التونسية. وقد استنكرت الحكومة هذا الاعتداء البدنى، كما أدانه رئيس الجمهورية وطالب بمحاسبة المسئولين عنه وأشار إلى أنه كان لديه علم مسبق بهذه الواقعة قبلها بثلاثة أيام، وهو ما أدى إلى جدل حول عدم اتخاذ الرئيس الإجراءات اللازمة لمنع هذا الاعتداء قبل وقوعه.
وقد قدم رئيس البرلمان راشد الغنوشى شكوى إلى النيابة العامة للتحقيق فيما تقوم به كتلة الحزب الدستورى الحر ورئيستها عبير موسى من اعتصامات وتعطيل أعمال البرلمان وضرورة منعها من ذلك. كما تقدم رئيس الحكومة بشكوى إلى النيابة العامة ضد أعضاء كتلة الحزب الدستورى الحر بتهمة تعطيل أعمال البرلمان أثناء مناقشة بعض الوزراء فى حكومته فى البرلمان.
•••
إن تونس ما زالت تعيش فى ظل أزمة سياسية معقدة يشارك فيها كل الأطراف فى السلطات الثلاث ولا يبدى أى منها رغبة فى الالتقاء مع الآخرين فى منتصف الطريق، بينما الأزمة الحقيقية التى تهدد أمن واستقرار الدولة هى الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التى يهرب الجميع من مواجهتها، ويعتقد كل طرف أنه يحقق بعض المكاسب على طرف أو أطراف أخرى بينما الحقيقة تتمثل فى ازدياد الأوضاع العامة سوءا يوما بعد يوم.