حول مقولة «التقدم الإنساني».. مساهمة أوّليّة في البحث الفلسفي - محمد عبدالشفيع عيسى - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 3:02 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حول مقولة «التقدم الإنساني».. مساهمة أوّليّة في البحث الفلسفي

نشر فى : الجمعة 13 أغسطس 2021 - 9:20 م | آخر تحديث : الجمعة 13 أغسطس 2021 - 9:20 م
عالجنا فى مقالنا السابق ما اعتبرناه تحفظا على فكرة التقدم التاريخى السائر بصورة خطية إلى الأمام. واليوم نواصل. فما نظّن أن إنسان عصر الاستنارة العقلية أصبح هو أكثر رغبة وقدرة على العمل الجماعى المشترك، بروح الغيرية والإيثار، مع أخيه الإنسان، بل ربما يكون قد وقع العكس، ولو أحيانا، وأحيانا كثيرة. وما نظّن أن الإمبراطوريات الحديثة والمعاصرة والراهنة، وآخرها الإمبراطورية الأمريكية (الإمبريالية الكبرى)، المتحالفة مع إمبرياليات صغرى على المستوى الإقليمى ــ وخاصة الحركة الصهيونية ــ ما نظّن بأن هذه وتلك أقل عدوانية، بل ربما أكثر، من إمبراطوريات قديمة ووسيطة فى منطقة البحر المتوسط، مثلا (إمبراطورية روما القديمة ثم الرومانية الوسيطة والبيزنطية) أو فى منطقة الشرق الأقصى (من الصين واليابان).. وإن كانت الإمبراطوريات المعاصرة وفى مقدمتها الأمريكية، (أكثر أناقة) مما قبلها. ولا نظّن أن ممارسات التتار فى بعض بداياتهم، أشدّ هولا بالضرورة من ممارسات حديثين ومعاصرين.. أو أن حروب الإبادة التى اصطلت بها بعض بلدان قارتنا «أفريقيا السمراء ــ الخضراء» فى الثمانينيات والتسعينيات من القرن المنصرم، أقل هولا مما وقع من ممارسات الصراع القبلى الدموى، أو بين مجتمعات متنوعة فى الشرق والغرب خلال العصر الوسيط.
كما لا نرى أن ما جرى من خنق لحرية المعتقد فى جنوب أوروبا خلال نهايات العصر الوسيط، على أيدى أنصار الحكم الكنسى المغلق، يصلح حجّة من أجل (شطب) «عالم الروح» لصالح عالم العقل المستريب.
***
لم يحدث تقدم جوهرى ملحوظ إذن فى العلاقات الدولية، وفى سياق النظم الاجتماعية المتعاقبة تاريخيا، وبرغم تغير للأفضل فى أحيان كثيرة بدون ريب، إنما كانت أشرِبَةً جديدة تُعبّأ دائما أو غالبا، فى قوارير جديدة أو متجددة.
ليس هذا فقط، بل لعل ما حاول علماء الغرب أن يقنعونا به من حدوث «تطور» فى سياق «التقدم» على مسار العلم الاجتماعى، هو بدوره محل شك كبير. فمن قال إن الفكر الفلسفى الحديث أكثر تطورا جوهريا ــ فى الجانب القيمى ــ من الفكر الفلسفى القديم، وإن كانت أكثر تعقيدا وأشدّ تقعيدا وأصلب عودا. وإنه عدا عن «التعقيد« (المتقدم) المصاحب للفلسفة الحديثة، فإنها ليست بالضرورة أكثر «إنسانية» من فلسفات وأفكار وبعض عقائد الشرق القديم – سواء منه الشرق الأدنى من مصر والعراق وغيرهما( انظر إلى «إخناتون» و«كتاب الموتى» فى مصر، «وشريعة حامورابى» فى العراق)، أم الشرق الأقصى عند الصينيين وغيرهم. وليس جان بول سارتر أكثر تطورا (إنسانيا) من (أرسطو وأفلاطون) إلا أن يكون أكثر تعقيدا. وليس توماس الأكوينى بأفضل (من ناحية التركيب الفكري) من ابن رشد. وقد لا يطاوله قيمة وقامة. وليس بعض فلسفات الغرب مطالع العصر الحديث وما بعدها، بأكثر إنسانية بالضرورة من بعض فلسفات الإسلام فى عوالمه الهندية والفارسية والعربية والأفريقية.. وإن كان جزء منها أشدّ اتّباعا للقواعد المنهجية الصارمة من بعض ما لدى عوالم الإسلام.
وليس صحيحا ما أشاعه مفكرو وفلاسفة الغرب حول إعادة بناء صورة الثقافة الغربية المعاصرة على هيئة بناء هرمى يبدأ من فلسفة الإغريق ويتوسطه الفكر القانونى الرومانى ثم ينتهى إلى عصر النهضة بدءا من المدن الإيطالية فى مطلع العصر الحديث؛ وهكذا دون المرور بمرحلة (الفكر الإسلامى الوسيط)..!
ولقد نجد أن الكتب التدريسية التى دأبت على تقديم «تطور الفكر السياسى» (جورج سباين مثلا) وتطور الفكر الاقتصادى (من التجاريين أصحاب الفكر «المركنتيلى» إلى الطبيعيين «الفيزيوكرات» ثم التقليديين «الكلاسيك» والمحدَثين منهم «النيوكلاسيك».. إلخ)، وكذا تطور علم الاجتماع، وتطور «الفكر الفلسفى»، كلها قد ارتكبت ما قد يعتبر بمثابة (جناية عظيمة) ــ إن صحت العبارة ــ على المعرفة الحقة والعلم القويم، حين اعتبرت أن ما جرى يمثل تطورا بالمدلول الحقيقى على نهج التقدم الحقّ المفترَض ــ ما عدا قفزة (الفكر الاشتراكى) بمدارسه المختلفة خلال القرن التاسع عشر والقرن العشرين حتى الستينيات. فلم يحدث بالضرورة «تطور» development كعلامة على حدوث تقدم progress على هيئة بناء هيكلى عامودى مفترَض، بعضه فوق بعض، كما قد توحى العبارة، وإنما حدث ما هو أقرب نسبيا إلى تجاور صفوف أفقية عبر تاريخ الفكر البشرىّ الطويل. فليست (يوتوبيا) توماس مور مثلا أفضل بالضرورة من (المدينة الفاضلة) للفارابى و(جمهورية) أفلاطون. وليس فلاسفة (العقد الاجتماعى) الأوروبى الحديث «هوبز» و«جون لوك» و«روسو» أفضل بالضرورة ــ من الناحية الفكرية ــ من ابن حزم وابن طفيل عندنا. وليس دوركايم مثلا فى علم الاجتماع بأفضل من (ابن خلدون)، مع التسليم باختلاف السياق.
ولا يمكن إنكار فضل التطور الفلسفى القائم على العقل من سلسلة ديكارت واسبينوزا وكانط وهيجل وصولا إلى سارتر ثم هابرماس، ولكن يجب وضع الرجال من فلاسفة ومتكلمى الشرق والإسلام فى مقاماتهم المحفوظة (من سلسلة الفلاسفة الكِنديّ والفارابى وابن سينا والمتكلمين خاصة المعتزلة «أهل العدل والتوحيد»). ودع عنك إسهامات العلوم العربية الوسيطة والرياضيات من الجبر والحساب (انظر أعمال د. رشدى راشد) وذلك من أجل وضع الإسهام الحضارى العربي ــ الإسلامى الأصيل فى موضعه التاريخى الصحيح وليس كمجرد قنطرة ناقلة أو مرحلة انتقالية عابرة بين الإغريق وأوروبا الحديثة، كما صور المتغرّبون وبعض المستشرقين وعموم مفكرى الغرب المحدثين.
***
الخلاصة أنه ينبغى أن نعيد بناء تصور العلم العالمى لتعيد وضع الأمور فى نصابها، مع إعادة الاعتبار للفكر الإسلامى الوسيط، ومع الحرص على البناء المتوازن لعالم العقل وعالم الروح.
فماذا بعد..؟ هل نقول إن «فكرة التقدم» بذاتها فكرة زائفة، بلا معنى حقيقى أو بلا صِدْقيّة..؟ لا ليس هذا ما نقصد إليه. إنما التقدم غاية ينبغى أن ندركها ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، وبكل الطرق المتاحة، وربما غير المتاحة حالا، وإن كانت كذلك مآلا.
إنما التقدم يجب أن يكون مفهوما فى إطاره الحقيقى كتقدم فى الإطار المرجعىّ من القيم الناظمة للسلوك الإنسانى، أفرادا وجماعات. بهذا المعنى، لم يحدث تقدم جوهرى ملحوظ منذ عبرنا (ما قبل التاريخ) إلى (التاريخ)، وإن كان حدث تقدم فهو فى (الدرجة) وليس فى (النوع)، فى الكمّ وليس فى النوع إلى حدّ بعيد.
قد وقع تقدم «مادى» فى مجال التحكم النسبى فى الطبيعة، من حيث «تطور» أدوات الإنتاج والسيطرة وممارسة العنف (آلات وأجهزة معملية وأسلحة ذكية) ولكنه ليس تقدما «إنسانيا» ــ قيميا محققا لنقلة نوعية فارقة عن (عالم الحيوان) ــ أى بالمعنى الشامل والعميق بحق.
ويبدو لنا أنه ربما من المحق أن نقوم بمجازفة فكرية فى حقل «فلسفة التاريخ» بما قد ندعوه «فلسفة المعرفة» بمعنى أوسع من «فلسفة العلم»، نذكر بمقتضاها أنه ما لم تتغير تركيبة «الطبيعة البشرية» الراهنة، فلن يحدث تقدم بالمعنى الذى حاولنا تلمّسه لماما. تلك هى الطبيعة القائمة منذ بدء (التاريخ)، بل وربما منذ ظهور الإنسان العاقل، قبل خمسين ألف سنة تقريبا، وفق بعض التقديرت المتاحة، دون أن يعنى ذلك، التسليم بصحة أو بخطأ نظرية (داروين) فى كتابه «أصل الأنواع» عن (التطور) أو (النشوء والارتقاء).
ولطالما أنحى المفكرون (التقدميون) باللوم على الفريق الذى يقول بمبدأ «الطبيعة البشرية الثابتة» كمحدِّد للسلوك البشرى فى مقابل «الطبيعة المتغيرة» للأنظمة الاجتماعية، واعتبروا ذلك ضربا من ضروب ما قد يسمّى «التفكير «الميتافيزيقى» أو «اللا علمى».
ولكنّا نجازف اليوم لنقول بالطبيعة البشرية، ولكن القابلة للتغير، فى الأمد الزمنىّ غير المنظور؛ ولكن متى وكيف؟ هذا ما لا نعلمه يقينا فى اللحظة. وربما يعلم من يأتون من بعدنا، حين، وحيث، يكون من وراء كل ذى علم عليم..!
محمد عبدالشفيع عيسى أستاذ باحث في اقتصاديات التنمية والعلاقات الدولية
التعليقات