نتداول فيما بيننا بشغف صورا ملتقطة حديثا لشارع المعز لدين الله الفاطمى، ونصطحب ضيوفنا القادمين من الخارج للتجول فيه، ونبذل جهدا قليلا أو كثيرا لإقناع أبنائنا وأحفادنا اصطحاب زوارهم من الشباب الأجانب للتجول فى المنطقة. نقول لهم إن فى هذا الحى آثار مجد وعظمة. هناك سارت مواكب الخليفة والمهنئين من أعالى القوم صباح أول أيام العيد، وفى هذا الشارع كانت تقام الاحتفالات بمولد السلطان العثمانى وسيدنا الحسين. كثيرا ما رويت لأبنائى وأحفادى حكايات مرحلة طفولة قضيتها فى هذا الحى، أملا فى أن أثير مخيلتهم، أخلط رواية عن سهرات الزار الممتدة أحيانا حتى صلاة الفجر برواية عن فلول جيش من المماليك عاد منتصرا أو مهزوما مارا بباب النصر فى طريق عودته إلى معسكراته بالدراسة، والجماهير على الجانبين وفى الحالتين مهللة. الأمر فى حقيقته لا يخصها فالجيش العائد منتصرا أو مهزوما أغلب جنوده وقادته من الأجانب وحربه كانت مع أجانب، وفى كل الأحوال ستزداد الضرائب ويشتد العسف.
***
نتداول أيضا وفيما بيننا وبخاصة على صفحات الفيسبوك صورا أكثرها بالأبيض والأسود وبعضها بالألوان لشوارع وأبنية بعينها فى كل من القاهرة والإسكندرية. نقول لبعضنا البعض وبخاصة لأولادنا، انظروا كم كنا فى أيامنا أنظف منكم وأرقى ذوقا وأكفأ فى إدارة الأحياء والمدن. كان المحافظ من الباشوات المصريين، يقضى إجازاته فى بارى ولندرة وروما ويعود منها ليضيف جمالا ورونقا إلى المدينة التى يتشرف بإدارة خدماتها.
لا أظن أن أحدا منا أبلغ أبناءه أو مساعديه من شباب هذه الأيام أن الشوارع وأغلب المبانى والمحلات التى تظهر فى الصورة ذائعة الصيت والانتشار لميدان طلعت حرب، سليمان باشا سابقا، لا تمت بصلة لمخطط عمران مصرى، وأن طراز المبانى أوروبى تماما لا علاقة له بالعمارة «المصرية» أو الإسلامية، وفى هذه الصورة تحديدا جميع المحلات، مثل داوود عدس وجروبى وصالون فير، مملوكة لأجانب ويديرها أجانب.
***
هذه الصورة، صورة ميدان طلعت حرب، لها شقيقة كادت، قبل أن تمتد إليها قبل أيام يد التخريب بعنوان الاصلاح، أن تكون بالنسبة لها فى مكانة التوءم، إنها صورة محطة الرمل فى الاسكندرية. أزعم أننى فى كل مرة أنظر فيها إلى الصورة يغلبنى شعور بحب جارف ومشاعر فياضة لميدان ومبان وترام أزرق اللون وفنادق وبنسيونات. أذكر الكثير مما قد يؤذى أسماع بيروقراطيين تولوا منصب المحافظ على مدى عقود عديدة، أساءوا خلالها إلى سمعة كنز من كنوز الحضارة الغربية خلفته لنا جاليات أجنبية عمرت الاسكندرية بعد أن كانت خرابا وجعلتها عروسا للبحر المتوسط.
أكاد أجزم أن عددا كبيرا من أبناء جيلى وجيل من بعدى سكنوا فى ضيافة عائلة أو أخرى إيطالية أو يونانية امتلكت شقة فى إحدى هذه البنايات الجميلة ثم حولتها خلال الحرب إلى بنسيون. أجزم أيضا أن أغلبنا عاد، وما زلنا نعود إلى بنسيون أو آخر تعودنا عليه وإن تغيرت ملكيته وإدارته. لماذا عدنا؟ لماذا نحرص ألا تضيع منا فرصة لنعود ونجلس فى «التراس» الضيق المطل على الميناء الشرقية كما فعلت أخيرا الصديقة منى أنيس ولها يعود الفضل فى اقتناعى بضرورة الكتابة مجددا فى الموضوع؟
***
نعود وسنعود طالما بقى فى الاسكندرية مكان يحافظ على مستوى معقول من النظافة والأناقة وحسن الضيافة، وطالما بقى فى الاسكندرية ما يذكرنى بأشيائها الجميلة، سواء كان هذا الشىء ترام بدورين أو مقهى أنيق متميز الخدمة والطعام والشراب يشغل مساحة صغيرة من كورنيش كان بين الأجمل فى العالم. بودى أن أتوجه بنصيحة إلى محافظ سكندرى تقنعه بفكرة إعادة حى أو أكثر أو شاطئ أو أكثر إلى ما كان عليه قبل أربعين أو خمسين عاما، وليكن للفرجة فقط، وليكن عنوان المشروع مستوحى من أفكار اختلاط الحضارات والثقافات. لن يحدث. بل أخشى أن تنتهى الاسكندرية إلى مصير أشبه بمدينة بورسعيد التى لم تعد تثير فى نفسى رغبة العودة إليها، إلى فندقها الحديدى العتيد ومطاعمها الراقية وشعبها المتعدد الثقافة واللغات والعادات.
***
لدى شكوك عديدة فى فرص نقل مصر حضاريا بالاقتصار على إقامة مدارس دولية، أظن أن كثيرا من هذه المدارس يديره حاليا أشخاص لم يتلقوا تدريبا على الحس الحضارى. تعلمت فى الخارج أن الذوق لا يرتقى فقط بالأمر المباشر أو بالتقليد. عشرات التماثيل المشوهة التى أقيمت أخيرا ومئات الإعلانات العملاقة التجارية والوطنية وفوضى الملابس التى صار يرتديها سكان الريف والحضر والتناقض الفاضح بين مظاهر إيمان ووقائع فساد كلها تشكل دليلا مؤكدا على أنه لا المال الوفير ولا السلطة القمعية وحدهما أو كلاهما معا شرطا كافيا للتحول من التخلف إلى التحضر.
***
لا أستطيع إنكار فضل أجانب الاسكندرية وبورسعيد ووسط العاصمة وهليوبوليس والمعادى على ما خلفوه من جمال ورقى وأناقة، أو إنكار فضل عرب المشرق على نشأة أو تطور الثقافة والموسيقى والمسرح والسينما وحاسة التذوق فى المجتمع المصرى، أو إنكار فضل عرب الخليج على إنقاذ اقتصاد مصر فى أوقات الأزمة، أو إنكار فضل المبعوثين المصريين إلى دول الغرب وتحديدا الذين عادوا يحملون حصيلة خبرة حضارية وديمقراطية وجرى قمع بعضهم أو مناهضته واتهامه بالعمالة فور عودته. من ناحية أخرى لا يجوز أن نغفل لأسباب دينية أو سياسية الدور السلبى لعهود القمع والاستبداد على تطورنا الحضارى وأثرها المباشر فى إضعاف مرونتنا المطلوبة للتأقلم مع الجديد والحديث. ربما أخطأنا حين أجرينا عملية تمصير الاقتصاد والمجتمع باستخدام درجة أو أخرى من القسوة وبالقفز فوق المراحل. وربما كنا نخطئ الآن ونحن نفعل كل ما من شأنه «تطفيش» خبرائنا المقيمين فى الخارج، ونفعل كل ما من شأنه منع الأجانب من البحث والعمل فى مصر، ونفرض العزلة على مصر استجابة لتيار سياسى له نفوذ فى دوائر وأجهزة بعينها.
***
كان الأجانب المتمصرون جزءا من نسيجنا الاجتماعى، بل وأزعم أنهم كانوا جزءا من هوية جيلى، وهوية بلدى. شاركوا فى صنع مرحلة من مراحل نهضتنا الحديثة على امتداد ما يقرب من قرن ونصف القرن قبل أن تمتد إلينا أيادى الانعزاليين وضيقى الأفق والمرتعشين خوفا من تقدم تكنولوجى وحقوق انسانية وعلوم حديثة وانفتاح على العالم. نكتفى الآن بزيارة أحيائهم والترويج لها سياحيا والتمسح بانجازاتهم المعمارية أو الادعاء بأننا نشاركهم هوية وتاريخا ونهضة.