أثينا أحرقت باريس - تامر شيخون - بوابة الشروق
الأربعاء 15 يناير 2025 11:18 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أثينا أحرقت باريس

نشر فى : الأحد 13 نوفمبر 2022 - 3:30 م | آخر تحديث : الأحد 13 نوفمبر 2022 - 3:30 م

مُرتدياً زيه العسكري يمشي الضابط، ذو الوجه الصارم بخطواتٍ منضبطة، يتبعهُ رجلٌ أسمر في حُلَّةٍ داكنة حتى توقف وسط الساحة المحاطة بحشدٍ من الصحفيين وأرتال من قوات مكافحة الشغب، المُحَصَّنَة بدروعٍ واقية.

بحزم مُقاتلٍ محترف، يوجه حديثه إلى الصحفيين قائلا أنه أنهى تواً محادثاته مع كبير المحققين الذي أكد وفاة شقيقه وأن كاميرات المراقبة رصدت وجه ضباط الشرطة، مُرتكبي الجريمة البشعة.

ثَمَّة تحرياتٍ مكثفة ستبدأ من أجل الإسراع بتحديد هوية الجناة والقبض عليهم كي تتحقق العدالة الناجزة. من أجل شقيقه المغدور، يسأل الجميع ضبط النفس والمشاركة في مسيرة سلمية صامتة حِدَاداً على روحه و احتجاجا على العنصرية.

ما إن أنهى الضابط تصريحه المُقْتَضَب حتى شَكَرَهُ الرجل الأسمر مُسْتَهِلاً خطبته السياسية المُتَكَلِّفَة عن التسامح والأمن والتكاتف في مواجهة العنصرية و العنف.

وَمَضَت عيونٌ حمراء تشع غضباً بين الحشود. شابٌ، عربي الملامح لا يبالِ بطنطنة الساسة يشعل زجاجة مولوتوف بمساعدة أعوانه من الصبية ثم يلقيها على الجموع فتنفجر، مُطْلِقَة شرارة أحداث عبثية للفيلم الفرنسي الملحمي"أثينا" من إخراج "رومان جافراس".

أثينا اسم افتراضي من بنات خيال جافراس لأحد أحياء باريس التي يسكنها أقليات عرقية من شمال وغرب أفريقيا. حالُهُ حال العديد من الأحياء الفقيرة بعاصمة النور على شاكلة "شاتو روج" و"سان دونيه". الاسم دلالته حيث كرر جافراس أكثر من مرة في حواراته أنه بنى السيناريوعلى نهج الملاحم الإغريقية.

يحكي الفيلم تفاصيل يومٍ عاصف لهذا الحي حين انتفض شبابه في ثورةِ غضبٍ ضد السلطة تحت قيادة الزعيم الشاب "كريم"، شقيق الطفل المجني عليه. انتفاضة انتقام من مجتمع عنصري احتقرهم وهَمَّشَهُم ثم قتل فيهم الأمل فضاقت بهم الأفق حتى أصبح ملاذهم الوحيد قنابل المولتوف وذخيرة الشرطة المنهوبة من القسم المسطو عليه والألعاب النارية التي اعتادوا استخدامها في مرحهم.

الكاميرا لا تنقل لنا لوحات فنية متدفقة فحسب، بل تلعب دور الراوي العليم إذ أبدع جافراس في حركتها السَلِسَة حتى جعل منها عيوننا الشاهدة على جنون الرحلة. سردية الفيلم تنهمر عبر مجموعة محدودة من المشاهد الطويلة المتصلة بلا قاطع “One Shot” في أسلوب يحاكي الكلاسيكية السينمائية "1917".

ملحمية الصورة تكملها ملحمية الموسيقى التصويرية الكلاسيكية المتصاعدة طرديا "من خلال مجموعة ضخمة من الوتريات" مع دراما الفيلم.

تخلى جافراس عن مشرط الطبيب فلم يتعمق في جذور المشكلة، ولم يقترح لها حلولا فلسفية إنما دعانا لنتأمل قاع المجتمع الفرنسي بعدسة مُكَبِّرَة تعريه حتى سقوط آخر ورقة توت.

نعيش المأساة بعيون الأشقاء الثلاث ذوي الأصول الجزائرية.

"عبدل" الضابط المحترف، المنخرط في خدمة الوطن و"الدولة". المُمَزَق بين الانتماء إلى مجتمعه المُضْطَهَد وإخلاصه لمهنته العسكرية.

"كريم" الشاب الثائر الذي فقد إيمانه في العدالة و القائمين عليها.

"مختار" تاجر المخدرات الذي اختار أن يقتات من بؤس شباب الحي . لا هَمَّ له سوى حماية تجارته من هجوم رجال الشرطة.

ثم نعيشها مُجَدداً على الطرف المقابل بعيون جندي شاب متوجس من المجهول حين يقذفه القدر في سعير حربٍ لا ناقة له فيها ولا هدف حين كلف القادة فرقته بمهاجمة الحي لكبح تمرد ساكنيه.

لا يضم طاقم التمثيل أيا من نجوم الصف الأول، بل أن ممثلا مثل "سامي سليمان" الذي جسد دور كريم، هو وجه جديد يقدم أول أدواره السينمائية على الإطلاق.
بالرغم من ذلك، أبدع الجميع في تجسيد مشاعر حقيقية لبشرٍ من لحم ودم.

نكأ الفيلم جرحا غائرا في عصب المجتمع الفرنسي. ثلاثة ملايين مواطن فرنسي من أصولٍ أفريقية.

تمثل صعوبة اندماجهم في المجتمع الفرنسي و التمييز العنصري ضدهم، سواء من اليمين المتطرف أو بعض رجال الشرطة العنصريين المقابل المكافئ لأزمة الأقليات السوداء و اللاتينية "الهيسبانيك" في أمريكا.

على مر التاريخ، ظلت السينما مرآة المجتمع وناقوس الخطر الأول ضد القنابل الموقوتة المسكوت عنها. بعد أقل من شهر على عرض الفيلم على منصة نيتفليكس في سبتمبر الماضي، فُجِعَت فرنسا بجريمة قتل بشعة في قلب باريس، راح ضحيتها طفلة فرنسية تدعى "لولا"، لم تتخطى الثانية عشر ربيعا على يد جارتها الشابة القاطنة في البناية. كي تكتمل دراما الواقع، يحكم القدر أن تكون القاتلة، مقيمة غير شرعية من أصول جزائرية أتت البلد بداعي الدراسة.

تفاصيل الجريمة تُدْمِي القلوب. طبعا لم تلبث أن استغلتها، أحزاب اليمين السياسي، وعلى رأسها "كتلة التجمع القومي" البرلمانية بقيادة "مارين لوبين" لتمرير أجندتها في البرلمان فراحت تنفخ في فتنة الكراهية ضد الأقليات العرقية والمهاجرين منددةً بخطرهم على السلم المجتمعي؛ حتى أن عضوة برلمانية انفجرت فيها مقاطعة: عار عليك.. احترمِ مشاعر أهل الضحية.. في إشارة ٍمنها أن للموت جلاله فلا تنتهكِ حرمته بألاعيب السياسة!

ما يخشاه المراقبون أن الحادث الجلل قد يلهب مشاعر الكراهية والخوف الهستيري ضد الأقليات الأفريقية والعربية فتنطلق شرارة فتنة تزداد في أتونها جرائم العنصرية والعقوبات الجماعية الهوجاء ضد الأبرياء.

يبقى ذلك المشهد العبقري حاضراً في الوجدان.

سماء حي أثينا ملونة بانفجارات الألعاب النارية الصاخبة، تمطر جذوات حارقة فوق رؤوس الجنود المختبئين أسفل دروعهم.

نتمنى أن تبقى باريس مضيئة فقط بنور الفن و الحب لا بفتن الأحياء المحترقة!

تامر شيخون كاتب مصري الجنسية من مواليد المملكة العربية السعودية، خريج كلية تجارة جامعة القاهرة. حاصل على ماجستير إدارة أعمال من جامعة إسلسكا الفرنسية ودبلوم تسويق من معهد سي آي إم الملكي ببريطانيا. يعمل في إدارة الأعمال بشركات عالمية وإقليمية منذ أكثر من ثمانية عشر عاما في منطقة الشرق الأوسط. حصل على الميدالية الذهبية كأفضل مذيع تلفزيوني في مسابقة ستوديو الفن مصر عام 2003. صدر أول كتبه الاجتماعية الساخرة عن دار العين للنشر (الأسد المغاغي والقطة الفاقوسية) وصلت أول رواياته بريدچ الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية للنشر إلى القائمة الطويلة لجائزة نجيب محفوظ. ألف سيناريو فيلم (الشبورة)، وقصة (أسرار تحت رمال ناعمة)، بالإضافة لأكثر من 50 أغنية باللغة الإنجليزية.
التعليقات