بدم بارد، لم يرعو وزير التراث الإسرائيلى، عميحاى إلياهو، عن التهديد بإفناء كل من يلوح بعلم فلسطين أو راية حماس؛ مطالبا الفلسطينيين، بالاغتراب فى إيرلندا، أو التيه فى الصحارى. وفى مقابلة مع راديو «كول بيراما» الإسرائيلى، لم يتورع الوزير اليمينى المتطرف، عن الدعوة إلى حسم الحرب على غزة، عبر استخدام «قنبلة نووية»، لإبادة الفلسطينيين، ومن بحوزتهم من الأسرى الإسرائيليين.
ظاهريا، تبرأ رئيس الوزراء، نتنياهو، من تلك الدعوة، التى اعتبرها «منفصلة عن الواقع». وبدلا من إقالته، أصدر قرارا بوقف مشاركة، إلياهو، فى اجتماعات الحكومة، حتى إشعار آخر. أما زعيم المعارضة، يائير لابيد، فشن هجوما حادا على، إلياهو، الذى وصف تصريحاته بأنها صادمة، مجنونة وغير مسئولة. وفى معرض تحذيره من مخاطر وجود المتطرفين فى الحكومة، على مستقبل الدولة العبرية، طالب بإقالة وزير التراث.
مبتغيا الانحناء لعاصفة الإدانات المحلية والدولية، التى أثارتها دعوته، أكد، إلياهو، عبر حسابه على منصة «إكس»، أن تصريحاته المشينة كانت «مجازية». غير أن الدلالات الاستراتيجية الخطيرة، التى انطوت عليها دعوته المشئومة، تبقى جديرة بالبحث المتعمق والدراسة المتفحصة. بحسابات استراتيجية بحتة، تفصح تلك التصريحات، عن فشل العدوان العسكرى الإسرائيلى البربرى على غزة. فبينما أعلنت حكومة، نتنياهو، أنه يستهدف الإجهاز على المقاومة الفلسطينية، وتقويض بنيتها التحتية العسكرية والإدارية. علاوة على تحرير الأسرى والمحتجزين الإسرائيليين والأجانب لديها؛ لم يتسنَ إدراك أى من تلك الغايات. فمع إتمام العدوان أسبوعه الخامس، تتنامى خسائره البشرية لتقارب الخمسين قتيلا، وفقا لرواية إسرائيلية، تتهمها المقاومة الفلسطينية بالتضليل وإخفاء العدد الحقيقى للقتلى. فضلا عن ارتفاع كلفته الاقتصادية المتوقعة لتناهز 51 مليار دولار، تشكل 10% من الناتج المحلى الإجمالى لدولة الاحتلال؛ التى خفضت وكالة «ستاندرد آند بورز» توقعاتها لتصنيف اقتصادها إلى «سلبية». وذلك بجريرة التعبئة المكثفة لقوات الاحتياط، الأضرار الجسيمة التى خلفتها عملية المقاومة فى السابع من أكتوبر الماضى، فضلا عن جهود الإخلاء، التعويضات، وإعادة الإعمار.
تشى السوابق التاريخية بأن إسرائيل لا تلوح باستخدام سلاحها النووى، إلا عندما تتعرض لتهديد وجودى مباشر، على وقع هزيمة عسكرية مزلزلة. ففى حرب أكتوبر 1973، وبعدما نجحت مصر وسوريا فى تحطيم أسطورة الجيش، الذى لا يقهر، وشل ذراعه الطولى، أمرت، رئيسة الوزراء الإسرائيلية، حينئذ، جولدا مائير، بنشر صواريخ متوسطة المدى من طراز «أريحا»، وقاذفات من طراز «فانتوم»، مزودة برءوس نووية، موجهة صوب القاهرة ودمشق. حتى تلتقطها الأقمار الاصطناعية الأمريكية، فتجزع إدارة، نيكسون، وتعجل بإغداق المساعدات العسكرية السخية لتل أبيب. ضمن سياق استراتيجية إسرائيلية محسوبة للابتزاز النووى.
جاءت دعوة الوزير الإسرائيلى بضرب غزة بقنبلة نووية، فى سياق المساعى الإسرائيلية لاستعادة «الردع الاستراتيجى» إزاء الجيوش النظامية، و«الردع التكتيكى» حيال حركات المقاومة المسلحة فى دول المحيط. علاوة على ترميم تصدعات الكبرياء العسكرى الإسرائيلى، الذى نالت منه المقاومة الفلسطينية، عبر هجماتهما النوعية المنسقة والناجحة، داخل العمق الإسرائيلى، الشهر المنقضى. الأمر، الذى يعتبره خبراء أمريكيون، التهديد الأكثر خطورة لأمن، شرعية ووجود إسرائيل، منذ حرب أكتوبر 1973. فيما تراه مجلة «إيكونوميست» البريطانية، المواجهة الأكثر دموية بين الإسرائيليين والفلسطينيين منذ عام 1948. فعلى وقع اتساع نطاق القتال، برز الخلل الوظيفى، والانشطار العمودى داخل حكومة، نتنياهو، بما يؤثر، سلبا، على عمليتى صنع واتخاذ القرار العسكرى داخلها. وهو ما يفسر مرابطة القوات الإسرائيلية عند نقاط انطلاق محددة بمحيط قطاع غزة، لمدة أسبوعين متواليين، ترقبا لصدور الأمر بالتوغل، لتنفيذ الاجتياح البرى.
أبانت تصريحات الوزير، إلياهو، مدى إمعان حكومة، نتياهو، فى التطرف والعنصرية حيال الفلسطينيين. حيث ينتمى، وزير التراث، إلى حزب «القوة اليهودية»، اليمينى المتطرف، المنخرط فيه أيضا وزير الأمن القومى، الموغل فى التطرف، إيتمار بن غفير. ويحض هذا الحزب على التوسع فى بناء المستوطنات على الأراضى الفلسطينية، ومعاودة احتلال قطاع غزة، وترحيل الفلسطينيين. ورغم أن، إلياهو، ليس عضوا بالمجلس الوزارى الأمنى، الذى يشارك فى عملية صنع القرار وقت الحرب، كما لا يملك أى تأثير على مجلس الوزراء الحربى المصغر، الذى يدير العدوان الغاشم ضد غزة؛ اعتبرت حركة «حماس» تصريحاته «تعبيرا عن نازية إسرائيل، وولعها بممارسة الإبادة الجماعية». فيما ارتأتها القاهرة، دليلا على مدى الانحراف والتطرف، اللذين سقط فى براثنهما بعض أعضاء حكومة، نتنياهو. أما منظمة التعاون الإسلامى، فوصمت التصريحات بالعنصرية، التى تعكس خطاب التطرف، الكراهية والتحريض على العنف، الإرهاب المنظم وجرائم الإبادة الجماعية، التى يقترفها الاحتلال الإسرائيلى، بحق الفلسطينيين، فى انتهاك صارخ للقوانين، المواثيق والقرارات الدولية. كما تشكل امتدادا لفكر إرهابى متطرف، يستوجب إدانة المجتمع الدولى، ومحاسبة إسرائيل.
سلطت تصريحات، إلياهو، الضوء على ثالث المؤشرات، التى تشى بطى إسرائيل صفحة استراتيجية «الغموض النووى». وهى التى ترتكن على سياسة «الردع بالشك»؛ وأن إسرائيل لن تكون الدولة الوحيدة، التى تسعى لامتلاك أسلحة نووية فى الشرق الأوسط، كما لن تكون البادئة باستخدامها، لكنها أيضا لن تكون التالية. جدير بالذكر، أن تل أبيب لم يسبق لها الاعتراف، رسميا، بامتلاك الأسلحة النووية، فيما تأبى الانخراط فى نظام منع الانتشار النووى، عبر رفضها التوقيع على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية للعام 1968، والبروتوكول الإضافى الملحق بها لعام 1995. ومن عجب أن تحظى تلك الاستراتيجية الإسرائيلية بمباركة واشنطن، رغم القوانين الأمريكية التى تحظر تأييد أو دعم الدول الساعية لامتلاك أسلحة نووية. وعلى نحو متدرج ومحسوب بدقة، بدأت إسرائيل تعرج إلى استراتيجية المجاهرة الحذرة، بامتلاك السلاح النووى، مع إظهار الإرادة والجهوزية لاستخدامه، عبر سياستى التهديد والابتزاز.
جليا، تراءى أول المؤشرات لهذا العروج إبان حرب أكتوبر 1973، كما أوردنا آنفا. فيما تبدى المؤشر الثانى عام 1986، حينما أقدم، موردخاى فانونو، الذى كان يعمل فنيا بمفاعل ديمونة، ثم فى منشأة ماشون ــ 2، المخصصة لإنتاج مواد البلوتونيوم، الليثيوم ديوترايد والبريليوم، التى تدخل فى صناعة القنابل النووية؛ على تزويد صحيفة «صنداى تايمز» البريطانية بأسرار الترسانة النووية العسكرية الإسرائيلية. وكشفت تسريباته، حينها، عن أن برنامج إسرائيل النووى العسكرى، أضخم، وأكثر تقدما مما كان يعتقد الكثيرون، بمن فيهم حلفاؤها.
تصب تصريحات، إلياهو، فى مجرى رسائل الردع والتهديد، التى تعكف حكومة نتنياهو، على توجيهها إلى إيران وغيرها. والتى مؤداها، أن خيار استخدام السلاح النووى الإسرائيلى مطروح على الطاولة. ومن ثم، يصعب تصور أن يكون الوزير الإسرائيلى، قد أطلق تصريحاته الاستفزازية من تلقاء نفسه؛ وإنما بتنسيق وتوزيع أدوار مع، نتنياهو، وباقى أعضاء حكومته اليمينية المتطرفة. الأمر الذى حض طهران على مطالبة المجتمع الدولى بتعاطٍ أشد حزما مع ملف الترسانة النووية الإسرائيلية.
مخيبا للآمال، جاء الموقف الرسمى الأمريكى إزاء تهديدات، إلياهو، النووية. حيث اكتفت واشنطن بإدانة تصريحات الوزير المتطرف. ولعله لم يكن مصادفة، تزامن التهديد النووى الإسرائيلى للفلسطينيين، مع حدثين بارزين. أولهما، وصول الغواصة النووية الأمريكية «أوهايو»، إلى منطقة عمليات الأسطول الخامس، التى تشمل الخليج، البحر الأحمر، وأجزاء من المحيط الهندى. بدعوى تعزيز الردع، ومنع التوسع الأفقى للمواجهات بين إسرائيل وحماس. وثانيهما، انطلاق محادثات أمريكية ــ صينية، هى الأولى منذ عهد أوباما، بشأن الحد من الأسلحة النووية. فلطالما أعربت واشنطن عن قلقها المتصاعد إزاء تعاظم الترسانة النووية الصينية؛ كما ناشدت بكين الانخراط فى مفاوضات ضبط التسلح، والحد من الأخطار الاستراتيجية. مع مواصلة الجهود لإدارة العلاقات بمسئولية، للحيلولة دون تدحرج المنافسة المحتدمة بين العملاقين باتجاه الصراع.