فى بلادنا يعرف مرض الحصبة باسم آخر شعبيا يتردد بصورة تلقائية «المبروكة».. حاولت كثيرا جاهدة أن أجد صلة ما قد تربط بين الإصابة الفيروسية بالحصبة والبركة فأعيانى البحث ولم أصل لنتيجة مرضية. الأمهات فى بلادنا تعرف جيدا الحصبة وأعراضها، بل أيضا تعرف أنها تخلق مناعة صلبة، فالذى تصيبه الحصبة لا تعود لزيارته لذا يرسلن أبناءهن طلبا للعدوى إلى الجيران.
ترتبط الحصبة أيضا بطقوس مصرية غريبة: الأم المصرية إذا ما أصيب طفلها بعدوى الحصبة فإنها تغلق عليه بابا، وترفض أن يغتسل، بل ومنهن أيضا من تصر على أن يرتدى طفلها ملابس حمراء تتماشى تماما ولون الطفح الجلدى الأحمر القانى الذى ينتشر معلنا بداية نهاية المرض والشفاء، هذا إذا لم تتداع أحوال الطفل وتطالبه المضاعفات نتيجة حتمية لتلك الطقوس التى كان يجب أن يحل محلها طقوس أخرى كعزل الطفل فى غرفة جيدة التهوية، والاهتمام بحمامه اليومى وملابسه القطنية وغذائه الصحى البسيط الغنى بالعناصر الطبيعية من الخضراوات والفواكه والحساء وبعض أنواع الوقاية البسيطة للعيون باستخدام قطرة للعين.
للمبروكة لقاح ينضم إليه لقاح للغدة النكفية وثالثا للحصبة الألمانية، وهو فى جدول تطعيمات الأطفال فى مصر يتم بصورة ملزمة لكل الأطفال عند تمام السن «١٢-١٥ شهرا» ويعطى للمرة الثانية قبل دخول المدرسة، ويمكن إعطاء جرعة ثالثة فى سن الثامنة عشرة. يتم تحضير اللقاء من فيروس الحصبة نفسه بإضعافه حتى يصبح غير قادر على التسبب بالمرض، بل فقط يستخدم لتحفيز الجسم على تكوين أجسام مناعية تضمن المناعة ولا تحدث أعراض المرض القاسية. قد يصاب الطفل إثر تناوله بارتفاع طفيف فى الحرارة وبعض الآلام المتفرقة إما نتيجة لتطعيم الحصبة أو الغدة النكفية والحصبة الألمانية.
الواقع أنه نتيجة للوعى الصحى المتنامى فى بلادنا ورغم تلك الطقوس الغريبة إلا أن الإقبال على التطعيم من الأمهات المصريات يستحق التقدير فى الوقت الذى يواجه المجتمع الأوروبى والأمريكى مشكلة حقيقية الآن فى إحجام أولياء أمور الأطفال عن تناول التطعيم الثلاثى كلية.
بعد انتشار زعم يربط بين تناول اللقاح وإصابة الأطفال لاحقا بأى من أطياف التوحد. لقيت القضية اهتماما كبيرا من وسائل الإعلام العالمية إثر انتشار موجات متلاحقة من الإصابة بالحصبة بلغت من القسوة أن اكتملت صورة التداعيات وحدثت وفيات.
العلاقة بين لقاح الحصبة ومرض التوحد بدأت حينما نشرت الدورية العلمية المرموقة والمشهود لها بالمصداقية العلمية فى منتصف التسعينيات نتائج دراسة علمية تحمل هذا المعنى: أن تناول اللقاح الثلاثى يصيب الأطفال بأطياف التوحد المختلفة.. تبعتها دراسات لاحقة أشارت إلى خطورة استخدام الزئبق فى تحضير اللقاح الأمر الذى حدا بوكالة الغذاء والدواء الأمريكية أن تصدر تقريرا تطلب فيه اختصار دور الزئبق فى تحضير اللقاح.
رغم أن الطبيب صاحب الدراسة تمت مراجعته من أكثر من جهة علمية وثبت تلاعبه بالنتائج فحرم من ممارسة المهنة إلا أن الأمر ظل كالنار تحت الرماد.
ظل الهاجس يؤرق الأسر الأوروبية والأمريكية حتى بالفعل حرم الكثير من الآباء أبناءهم من وقاية قد تصل إلى ٩٥٪ من الإصابة بالحصبة والحصبة الألمانية والغدة النكفية. رغم كل الدراسات التى أجريت للتحقق من الأمر ورغم إصابة عدد كبير من الأطفال الذين لم يتناولوا التطعيم بأطياف التوحد فإن الهاجس لم ينحسر وظل يلاحق الأسرة الأمريكية والأوروبية حتى الآن.
قناعتان مختلفتان تماما تعبران عن ثقافتين مختلفتين لكن النهاية واحدة يدفع ثمنها بالكامل الأطفال.