اعترافا بحقوق القراء على الكاتب، فمن الواجب تفسير أسباب التوقف عن الكتابة لعدة أسابيع، وهى تتلخص فى صعوبة التكيف مع بيئة النشر الحالية، ولكن المئوية الأولى لثورة 1919 تفرض حقوقا من نوع آخر للقراء، لا سيما القراء من الأجيال الشابة، وقد كنت كتبت عدة مرات ــ مبكرا هنا فى الشروق ــ عن قضايا محددة تثيرها هذه الذكرى، وتتصل بأوضاعنا الحاضرة.
فى مقال اليوم نقارن بين خذلان الرئيس الأمريكى المعاصر لثورة 1919 وودرو ويلسون لقيادة هذه الثورة فى مطلب حق تقرير المصير والاستقلال التام، وبين مساندة الرئيس الأمريكى المعاصر لثورة يوليو 1952 لمطلب قيادة هذه الثورة بجلاء الاحتلال العسكرى البريطانى عن قاعدة قناة السويس، ليتبين لنا، وكما سيتضح من السياق أن تغير موازين القوى الدولية بعد الحرب العالمية الثانية لمصلحة الولايات المتحدة، على حساب الإمبراطورية البريطانية، وسياسة إحلال النفوذ الأمريكى محل نفوذ تلك الإمبراطورية الآفلة كانا هما العامل الحاسم وراء إيجابية أيزنهاور، مقارنة بخيانة ويلسون لمبادئه الأربعة عشر الشهيرة، وأشهرها حق الشعوب الخاضعة للإمبراطوريات المهزومة والمنتصرة فى الحرب العالمية الأولى فى تقرير مصيرها، بما يعنى الاستقلال الوطنى التام، وهو الحق أو المبدأ الذى استند اليه سعد زغلول وزملاؤه فى المطالبة بمشاركة مصر فى مؤتمر الصلح الدولى بفرساى لإقرار حقها فى الخلاص من الاحتلال البريطانى، وفى رسائله وبرقياته إلى الرئيس الأمريكى، والكونجرس، والصحف، وقادة الرأى فى الولايات المتحدة.
يفسر البروفيسور إرتس مانيلا أستاذ التاريخ بجامعة هارفارد خذلان ويلسون للحركة الوطنية المصرية، والذى يصفه بـ«أقبح الخيانات» بمقولة أو كذبه دعائية سوداء روجها اللورد أرثر بلفور وزير خارجية بريطانيا، وتزعم أن الثورة المصرية هى من تدبير وطنيين متطرفين، هم فى الأصل عملاء ممولون من حزب ثورى فى تركيا، ومن البلاشفة الروس، وأنهم يستغلون مبادئ ويلسون لتأجيج نيران حرب مقدسة ضد غير المسلمين، ويضيف إرتس أن الرئيس الأمريكى سارع بعد ذلك إلى الاعتراف بالسيطرة البريطانية الكاملة على مصر .
بغض النظر عن التناقض فى كذبة بلفور بين تحالف الوطنيين المصريين وتَمَوُّلهم من البلاشفة (الملحدين!) ومن الثوريين الأتراك (المعادين للخلافة الإسلامية!) وبين اتهام هؤلاء الوطنيين المصريين بالعمل على تأجيج حرب مقدسة ضد غير المسلمين، فيجب ألا تفوتنا ملاحظة قدم وتكرار اتهام الثورات الشعبية بالعمالة لقوى خارجية، والتمول منها، حتى وإن كانت المطالب نبيلة ومشروعة، وحتى وإن شاركت غالبية الشعب المعنى فى الثورة، كما يقال حاليا عن ثورة يناير 2011.
من المؤكد أن دسيسة اللورد لم تكن هى السبب الحقيقى وراء خيانة ويلسون لمصر، وغيرها من المستعمرات خارج أوروبا كالهند وكوريا، بل وسوريا والعراق وفلسطين، وقصره حق تقرير المصير على مستعمرات النمسا وتركيا فى أوروبا، ولكنها كانت ذريعة تحفظ ماء الوجه، وتحافظ على المصالح الأمريكية مع الإمبراطورتين الاستعماريتين البريطانية والفرنسية، بما أنه تبقى لديهما ما يكفى من القوة للحفاظ على مصالحهما الاستعمارية.
أما بعد الحرب العالمية الثانية فقد تغيرت الموازين الدولية تغيرا كبيرا، وأصبحت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى هما القوتين العظميين، وانخرط الجميع فى الصراع المذهبى، واستسلمت لندن وباريس للقيادة الامريكية للتحالف الغربى، ولم يكن إصرار الرئيس الأمريكى الذى قاد الحلفاء فى الحرب العالمية الثانية فرانكلين روزفلت على النص فى ميثاق الأطلنطى عام 1942 مع رئيس الوزراء البريطانى ونستون تشرشل على تصفية الاستعمار إلا الأساس القانونى للوراثة الأمريكية لتلكما الإمبراطوريتين.
من هنا لم يفلح استعطاف تشرشل فيما بعد للرئيس الأمريكى أيزنهاور عام 1953 فى إقناعه باستمرار الوجود العسكرى البريطانى فى مصر، إذ كان رئيس الوزراء البريطانى قد كتب يقول لأيزنهاور إن الجنود البريطانيين الذين يهاجمهم الفدائيون المصريون فى قاعدة قناة السويس هم بعض من خدموا تحت قيادته (أى تحت قيادة أيزنهاور) فى الحرب العالمية، ولأن المصالح أقوى من العواطف فإن الولايات المتحدة قررت مساندة موقف القيادة الجديدة فى مصر بضرورة جلاء البريطانين عن قناة السويس، وهو ما تحقق باتفاقية 1954، بافتراض ــ كان له ما يبرره وقتها ــ بأن ضباط يوليو سيكونون أصدقاء جيدين لواشنطن، وهو ما لم يتحقق بسبب أخطاء أمريكية لاحقة، ليس هنا مجال تقصيها.
وما دمنا فى سياق الذكرى المئوية لثورة 1919 ينبغى الانتباه إلى أن منهج التفاوض الذى تبنته قيادة تلك الثورة هو نفس المنهج الذى تبنته قيادة ثورة يوليو 1952، ولكن فى ظروف دولية مواتية، كما سبق الإيضاح توا، بمعنى أن إجلاء الاحتلال البريطانى لمصر لم يكن بسبب هزيمة الاحتلال عسكريا، وليس فى هذا عيب يؤخذ على ضباط يوليو، ولكن العيب كل العيب أن يؤخذ على زعامة ثورة 1919 أنها تبنت أسلوب التفاوض، أو ما يسمى بالوسائل السلمية لتحقيق الاستقلال، فإذا قيل إن قيادات يوليو مزجت بين التفاوض وبين المقاومة المسلحة بواسطة الفدائيين، فإن هذا المزج بين العمل الفدائى والمفاوضات مضافا اليهما الحصار الاقتصادى للقاعدة البريطانية، كان قد بدأ منذ أن ألغى مصطفى النحاس (الزعيم الثانى لثورة 1919 ) معاهدة 1936، ولم يوقف هذه الخطة إلا حريق القاهرة فى يناير 1952، وهو الذى كان بفعل مؤامرة بريطانية مع الرجعية المصرية، لإنهاء الحالة الثورية التى أججها قرار إلغاء المعاهدة، ثم إنه من الإنصاف لزعماء ثورة 1919 الإقرار بأنهم لم يهملوا ــ كلية ــ فكرة الكفاح المسلح لتعزيز موقفهم التفاوضى، ولكن فى حدود ما سمحت به ظروف العصر، فقد أصبح معروفا الآن ــ وباليقين ــ أن سعد زغلول أنشأ جهازا سريا ينفذ عمليات فدائية ضد الاحتلال، بقيادة عبدالرحمن فهمى باشا وزملائه من شباب الثورة، أشهرهم أحمد ماهر ومحمود فهمى النقراشى.
ليس الغرض من هذه المقارنات بين مسلك وإنجازات قيادات يوليو وقيادات ثورة 1919 هو المفاضلة بين الثورتين والقيادتين فيما يتعلق بقضية استقلال الوطن، وإنما الغرض هو فهم كل مسلك أو إنجاز فى سياقه المحلى والدولى، مع التقدير الكامل لوطنية الجميع، فضلا عن أن السياق الأصلى لهذا المقال هو المقارنة بين خيانة ويلسون للحقوق الوطنية المصرية، وبين إيجابية ايزنهاور، كما يوضح العنوان.
بقيت فى ختام هذه السطور ذكرى مهمة، من قبيل أن الشىءبالشىءيذكر وهى أن قصيدة «مصر تتحدث عن نفسها» لشاعر النيل حافظ ابراهيم، والتى تتغنى السيدة أم كلثوم ببعض أبياتها قد كتبت فى الأصل ردا على تنكر الرئيس ويلسون لحق مصر فى الاستقلال، بذريعة أن المصريين لم يبلغوا بعد مستوى الرقى اللازم لحكم أنفسهم بأنفسهم، ولذا كان بيت القصيد فيها هو:
أترانى وقد طويت حياتى فى مراس لم أبلغ اليوم رشدى.