لئن كانت مشاركة المقاتلين العابرين للحدود فى الحروب بين الجيوش النظامية ظاهرة تاريخية وكونية بامتياز، يبقى انخراطهم فى المعترك الأوكرانى هذه الأيام أمرا مألوفا. فلقد أكدت مصادر غربية انخراط ما يربو على 17 ألف مقاتل، من 54 دولة، فى القتال على الجانبين الروسى والأوكرانى، إبان الحملة العسكرية الروسية بجزيرة القرم وأقاليم شرق أوكرانيا الانفصالية عام 2014. فحينئذ، عززت روسيا قواتها بآلاف المقاتلين الأجانب، فيما تأسست على أرض دونباس مجموعة «فاغنر» لدعم الانفصاليين الموالين لموسكو، من خلال القتال إلى جانب القوات النظامية الروسية والميليشيات الموالية للكرملين. فى المقابل، تمكنت أوكرانيا من استنفار آلاف المقاتلين الأجانب، عبر إطلاق حملات دعائية لحشد المتطوعين، وجمع التبرعات المالية والإمدادات العسكرية.
فى مسعى منه لشرعنة ومأسسة هكذا إجراءات، أصدر الرئيس الأوكرانى مطلع يناير الماضى، قانون المقاومة الوطنية الجديد، الذى جعل من «قوات الدفاع الإقليمية عن أوكرانيا» كيانا قانونيا، كما خوَل المؤسسة العسكرية التعاقد مع مقاتلين أجانب. ومع نهاية الشهر المنقضى، أصدر، زيلنسكى، توجيها بتشكيل «فيلق أجنبى» للمتطوعين الأجانب، بهدف مؤازرة قوات بلاده فى التصدى للغزو الروسى. وتوخيا لاجتذاب المتطوعين من كل حدب وصوب، أطلق حملة دعائية مناهضة لروسيا، لم يتورع خلالها عن استثمار ديانته اليهودية لاستجداء الدعم الإسرائيلى وتعبئة المناصرين اليهود، الذين اعتبروه رمزا لمواجهة الموت، والتصدى للاستبداد، فى تجسيد لسردية، داوود، المقاتل الشجاع النبيل، الذى تحدى فارق القوة، ليقهر المارد الجالوتى الشرير.
ومنذ يناير الفائت، انبرت وسائل الإعلام الأوكرانية فى استدعاءالأجانب التواقين لمجابهة العدوان الروسى المحتمل، وتم فتح باب التبرعات المالية والعينية، كالمنظومات التسليحية والأنشطة التدريبية للجيش النظامى وتشكيلات المتطوعين الأجانب، الذين أعلنت السلطات الأوكرانية تجاوز أعدادهم عشرين ألفا، يحملون جنسيات اثنين وخمسين دولة، ويحترفون القتال وحماية الأماكن والمنشآت. بدورها، اتهمت وسائل إعلام رسمية سورية، القوات الأمريكية المتمركزة بمنطقة التنف على الحدود السورية العراقية، بالضلوع فى نقل مقاتلين من فصائل المعارضة السورية، للقتال إلى جانب القوات الأوكرانية.
مع دخول حربه «الهجينة» بأوكرانيا أسبوعها الثالث، قرر الرئيس الروسى السماح للمتطوعين الراغبين فى القتال، من غير الروس، بالالتحاق بجيش بلاده هناك. فيما أكد وزير دفاعه، تلقى 16 ألف طلب من دول الشرق الأوسط للمشاركة فى القتال بإقليم دونباس. وبينما ربطت موسكو تلك الخطوة باستعانتها، فيما مضى، بمتطوعين أجانب لمحاربة «داعش»، فى حين اعتبرها مسئولون غربيون نزوعا روسيا لاستنساخ استراتيجية التدخل فى سوريا، برأسها تطل مآرب أخرى. فمع بلوغ الحملة الروسية بأوكرانيا مرحلة حروب الشوارع، والمدن، والعصابات، ينحو بوتين صوب الاستعانة بمتطوعين أجانب ذوى خبرة فى الحروب غير النمطية، لاقتحام المدن الأوكرانية المستعصية. فعلاوة على المتطوعين الشيشانيين والسوريين، أكدت وسائل إعلام غربية وصول 4000 من مقاتلى «فاجنر» المرابطين بسوريا وليبيا، إلى أوكرانيا مطلع يناير الماضى. انتشر بعضهم فى المنطقتين الانفصاليتين دونيتسك ولوهانسك، فيما دلف بعض آخر من بيلاروسيا باتجاه العاصمة كييف. تبتغى موسكو إبراء ذمة المقاتلين الروس من أية مسئولية قانونية حيال ما يدور على المسرح الأوكرانى، خصوصا بعد اتهام الأمم المتحدة للقوات الروسية بارتكاب ما يرقى إلى جرائم حرب هناك. ويتوسل بوتين نجاح «فاجنر» فى وقف نزيف الخسائر البشرية بصفوف القوات الروسية، عبر مباشرة أنشطة التضليل العسكرى، وعمليات التخريب، التى تشحذ همم الجيش الروسى، وتثبط معنويات نظيره الأوكرانى.
لما كانت موازين القوى تميل لمصلحة روسيا، التى يحتل جيشها المرتبة الثانية عالميا، فيما يأتى الأوكرانى فى المرتبة الثانية والعشرين، فقد هدف، زيلنسكى، من وراء استجلاب المقاتلين الأجانب إلى بلوغ غايات شتى. لعل أبرزها: تدويل وأنسنة القضية الأوكرانية، عبر الترويج أن نصرتها ضمانة للأمن الدولى، استنادا إلى أن بوتين لا يستهدف أوكرانيا وحدها، وإنما العالم الحر بأسره. وإضافة إلى استدرار تعاطف ودعم المجتمع الدولى فى مواجهة روسيا، يلتمس، زيلنسكى، استنزاف قواتها فى حرب غير متماثلة، ورفع معنويات الجيش الأوكرانى، عبر تثبيت أقدامه بمقاتلين أصحاب خبرات اكتسبوها من نزالاتهم المتوالية ضد الجيش الروسى فى جورجيا والشيشان.
بوازع من رهان على جهوزية متطوعين سبق لهم العمل بالجيوش والشركات الأمنية، لتشغيل المنظومات التسليحية الغربية التى تحصلت عليها أوكرانيا، بينما لم يتسع الوقت لتدريب جيشها عليها، رحبت دول غربية بالفيلق الدولى الأوكرانى. بل إن بعضها سمح لمواطنيه بالانضمام إليه، دونما معوقات قانونية، أو ملاحقات قضائية، انطلاقا من أن الشعب الأوكرانى يقاتل من أجل الديمقراطية والحرية للإنسانية جمعاء. وفى مسعى لاستنساخ استراتيجية مستشار الأمن القومى الأمريكى الراحل، زيجينو بريجنسكى، الخاصة بالجهاد ضد الغزو السوفيتى لأفغانستان فى ثمانينيات القرن الماضى، دعت أوساط استخباراتية غربية إلى إرسال «فيلق» من القوات الخاصة الأفغانية، التى أنشأها ودربها الأمريكيون والبريطانيون، عقب إجلائها من أفغانستان منتصف أغسطس الماضى، للقتال برفقة الجيش الأوكرانى.
رغم ما يشاع عن مراجعة وتدقيق لعمليات استجلاب راغبى القتال فى أوكرانيا، تظل التداعيات الخطيرة لتدفق المقاتلين الأجانب، كابوسا يقض مضاجع الأوكرانيين والعالم قاطبة. فسياسيا، قد لا تنجو الحكومات التى سمحت لمواطنيها بالقتال هناك، من عواقب عودة جثامين القتلى، حتى تهتز شرعيتها ويتآكل رصيدها السياسى. وبمقاربة أمنية، ربما تفضى التحديات اللوجيستية، والشروط التعاقدية المجحفة للقتال فى أوكرانيا، كاشتراط تسليم جواز السفر، ولزوم الميدان حتى انتهاء الأحكام العرفية، إلى إجبار المقاتلين الأجانب على البقاء بأوكرانيا. وهو ما يطيل أمد النزاع المسلح، وينعش الفواعل العنيفة دون الدول، كالمرتزقة، والميليشيات، والتنظيمات الإرهابية، والجماعات المتطرفة. بحيث تمعن فى ممارسة أنشطة عسكرية غير منضبطة، وعصية على السيطرة. وبجريرة تعقيدات قانونية وسياسية متنوعة، ستتعذر مقاضاتها على ما تقترفه من جرائم حرب وانتهاكات لحقوق الإنسان، كونها ليست جيشا نظاميا.
بتدفق مقاتلين أجانب، مدججين بأسلحة فتاكة مثل صواريخ «ستينجر»، أو «ستريلا» المضادة للطائرات، أو «جافلين» المضادة للدبابات، تكتمل أركان عملية انبعاث الإرهاب وإعادة تموضع عناصره وتدوير تنظيماته. وقد تغذى قابليتهم للانتقال عبر الحدود، موجات الإرهاب المحلى فى القارة العجوز، والتى تفوق كلفتها وضحاياها نظيرتيها لجهة الإرهاب الدولى. وغالبا ما سيوفر استدعاء مقاتلين أجانب مظلة لتدخل الشركات الأمنية الروسية والغربية فى أوكرانيا، بذريعة الاضطلاع بمهام يستعصى على جيشها القيام بها. الأمر الذى قد يستفز القوات الروسية ويدفعها إلى تكثيف وتيرة هجماتها.
يظل مصير المقاتلين الأجانب عقب انتهاء الحرب الأوكرانية، معضلة مزعجة. فمن غير المستبعد أن ينقلب السحر على الساحر، بحيث يتحول المقاتلون الأجانب للعمل ضد البلدان التى استجلبتهم، مثلما فعل المقاتلون الإسبان الذين استأجرتهم الإمبراطورية البيزنطية لمحاربة الأتراك قبل سبعة قرون خلت، حينما انقلبوا على البيزنطيين، وهاجموا مدنهم، وعاثوا فيها فسادا. وبينما لا يزال العالم يعانى ويلات عودة المقاتلين المنخرطين فى حروب سوريا والعراق وأفغانستان، إلى بلدانهم، مُثقلين بخبرات قتالية وجنوح جنونى للعنف، لن تتورع التيارات اليمينية الأوروبية المتطرفة عن التهافت على استقطاب المقاتلين العائدين من أوكرانيا، بغية توظيفهم لخدمة مشروعها المناهض لروسيا.
تنذر الاصطفافات على أسس هوياتية ومناطقية، بين شرق أوكرانى يقطنه سلاف روس موالون لموسكو، وغرب سلافى أوروبى متعلق بتلابيب «الناتو»، والاتحاد الأوروبى، باندلاع حرب أهلية أوكرانية، أو أخرى لاستنزاف روسيا، توطئة لتقويض ما كان يعرف منذ القرن التاسع عشر، بـ«الوحدة السلافية». وبشظاياه الإثنية، يمكن للصراع الروسى الأوكرانى إذكاء عنف اليمين المتطرف الأوروبى، فيما يعرف بـ«الإرهاب الأبيض». فبحيازتهم للأسلحة الفتاكة، واحترافهم القتال، والتحامهم بالمتطرفين الدوليين، سيتسنى للقوميين المناهضين لليبرالية، والعولمة، تحت شعار «الدفاع عن الهوية الأوروبية والتراث المسيحى»، إطلاق انتفاضتهم الدموية المزعومة لإنقاذ الحضارة الغربية، وأخذ ثارات تاريخية من الروس.
غير بعيد عن محاولات أفغنة أوكرانيا وتفخيخ محيطها الإقليمى، ملفتة أتت إدانة مجلس العلاقات الأمريكية ــ الإسلامية، التدخل الروسى فى أوكرانيا، وإعلانه الاصطفاف ضمن المحور المناهض لموسكو. ففى حين يدرج بوتين تيارات الإسلام السياسى على قائمة التنظيمات الإرهابية، يعتبره الإسلاميون «مجرم حرب»، والغ فى دماء زرافات من المسلمين الشيشانيين والسوريين والروس. وبجانب مناكفة الرئيس الروسى، يراهن أولئك المتأسلمون، على أن يتيح لهم موقفهم من الأزمة الأوكرانية، ولو بصيص أمل، لإعادة التموضع، عبر تبييض وجوههم، والتماس أوراق اعتماد جديدة لدى حكوماتهم وشعوبهم، كما العالم من حولهم.