إذا أحسنّا الظن بالشيخ حسن نصر الله زعيم حزب الله ــ ونحن لانزال نحسن الظن به ــ فإننا نطالبه بأن يطبق على نفسه مقولة الإمام على ــ كرم الله وجهه ــ : «ليس من طلب الحق فأخطأه، كمن طلب الباطل فأدركه»، وهو بلا شك قد أخطأ طلب الحق ومن ثم فالعودة إلى هذا الحق فضيلة.. والفضيلة هنا هى الاعتراف بالخطأ فى حق مصر.
بنظرة سريعة سوف نكتشف أن كبار الرسميين المصريين يمتنعون عن استخدام المفردات الصاخبة فى الحديث عن النزاع مع قيادة حزب الله، بعد ضبط وإذاعة أنباء الخلية التابعة للحزب على الأراضى المصرية، بل إن الرئيس حسنى مبارك نفسه لم يزد فى حديثه إلى رئيس الوزراء اللبنانى فؤاد السنيورة على القول: إن القضية برمتها أصبحت فى يدى القضاء، ولكن مصر لا تسمح بالعبث بأمنها وسيادتها. ولم يؤثَر عن رئيس الوزراء المصرى أو وزير الإعلام ــ وهما أرفع من تحدث فى هذه القضية علنا بعد الرئيس مبارك ــ استخدام لغة صاخبة، وإن كان الجميع قد استخدموا لغة حاسمة.
أحد التفسيرات الواضحة لهذا التوازن الانفعالى فى مواجهة خطيئة إقامة تنظيم سرى تابع لحزب الله على الأراضى المصرية، وخطأ تباهى الأمين العام للحزب الشيح حسن نصر الله بارتكابها، هو أن مصر على مستوى كبار الرسميين تدرك أن مقامها، وصورتها فى عيون العرب والعالم أكبر من أن تدخل فى مثل هذه الملاحاة، وأنه من أكبر الكبائر فى حق مصر نفسها أن يفكر أحد فى وضع رأس رئيسها برأس زعيم حزب أو حركة مقاومة، مهما يبلغ من إعجاب به لدى كثيرين، لا سيما عندما تحمل عبء مقاومة الاحتلال الإسرائيلى للجنوب، حتى قضى عليه. فما بالنا إذا كان الرجل قد أخطأ فى حق مصر، واعترف بالخطأ وإن لم يكن يسميه خطأ، وذلك فى سياق سلسلة من الأخطاء بدأت بالزحف على بيروت لإملاء شروط سياسية على خصومه السياسيين، ولم تنته بارتكابه «أحرم الحرام» حين دعا القوات المسلحة المصرية، والشعب المصرى للتمرد على النظام الشرعى، ونصرة حركة حماس فى غزة فى مواجهة العدوان الإسرائيلى الإجرامى الأخير رغما عن أنف النظام، وكأن قرار دخول مصر فى الحرب يتخذ فى الضاحية الجنوبية لبيروت، أو فى أروقة الحلف الثلاثى بين إيران وحركة حماس وحزب الله، مع أننا من دعاة الانفتاح المصرى والعربى على إيران، على الأقل لموازنة التفوق الاستراتيجى الإسرائيلى الكاسح.
تفسير آخر لا يتعارض مع التفسير السابق، وهو أن القاهرة قرأت جيدا دوافع الشيخ نصر الله لهذه المكابرة، فقد اعتقد الرجل على ما يبدو أن كشف السلطات المصرية فى هذا التوقيت بالذات عن ضبط خلية «سامى شهاب»، قصد به التأثير فى الانتخابات النيابية المقبلة فى لبنان سلبا على حزب الله وحلفائه لمصلحة تيار المستقبل وحلفائه، ومن ثم فقد أراد بالاعتراف علنا ــ وعلى لسانه هو شخصيا ــ أن يقلب ما يعتقد أنه مناورة مصرية لمصلحته، بمعنى أنه ارتأى أن الاعتراف يحفظ له مصداقيته أمام أتباعه، ومعجبيه، وبقية اللبنانيين، وفى الوقت نفسه فإن هذا الاعتراف يعزز صورته كقائد للمقاومة العربية الإسلامية ضد إسرائيل، ولكن الرجل أخطأ فى هذا الحساب مرة أخرى، صحيح أنه لم يكن يستطيع التهرب من الاعتراف حتى لا يفقد مصداقيته، ولكن لماذا آثر أن يتباهى بانتهاك سيادة مصر، والتحرك من وراء ظهر سلطاتها الشرعية، وأجهزتها الأمنية، بدلا من أن يعتذر عن ذلك فى لحظة الاعتراف نفسها، وقد كان مثل ذلك الاعتذار كافيا لحصر الأزمة فى أضيق نطاق، لأنه مهما تكن النيات حسنة، أى مهما نحاول أن نصدق ــ وأنا شخصيا أصدق ــ أن التنظيم السرى لحزب الله فى مصر لم يكن يخطط لارتكاب أعمال تخريبية ضد أهداف مصرية، فإن مجرد إقامة التنظيم، وشبكته للاتصالات وقواعده وخطوطه اللوجيستية، كل ذلك يعتبر انتهاكا جسيما للسيادة المصرية، واستهتارا بمقام دولة فى حجم مصر، ووضعها فى موقف يمكن لأى خطأ فيه أن يتسبب فى نشوب نزاع لم تخطط له مصر، وبالتالى لم تستعد له، فإن لم يقع مثل هذا الخطأ، فسوف تجد مصر نفسها فى موقف محرج دبلوماسيا أمام العالم كله تقريبا، والنقطة المهمة هنا ــ كما نتصور ــ ليس حرص مصر على التهرب من مواجهة إسرائيل أو أى أطراف أخرى بأى ثمن ــ ولكن هذه النقطة هى أن مصر يجب ألا تُجر إلى مواجهة تُصنع أسبابها خارج إقليمها، ومن غير مؤسساتها الشرعية، وفى ظرف تحكم فيه إسرائيل مجموعة متهورة، لا تتورع عن استغلال ذريعة لإعادة قلب الموقف الاستراتيجى، ولو بعمل عسكرى أوسع نطاقا من المعتاد للتهرب من الاستحقاقات المفترض أن تطالبها بها إدارة أوباما.. بل هى تبحث عن هذه الذريعة، ولعلنا لم ننسَ بعد أن نتنياهو حاول فى آخر أيام حكومته السابقة افتعال ذريعة لشن هجوم شامل على سوريا.
وبالمناسبة.. ولمن أباحوا لأنفسهم المغالطة فى غمرة الانفعال ــ المسيطر على المساجلات الإعلامية الآن ــ أن يدعوا أن مصر تستأسد على أى طرف عربى أضعف منها مثل السودان عندما دبرت أطراف منه المحاولة الفاشلة لاغتيال الرئيس مبارك فى أديس أبابا، أو فى مواجهة تهجمات بعض الدوائر القطرية، وأخيرا تهجمات حزب الله ــ فى حين أنها تواجه التجاوزات والتوقحات الإسرائيلية بتعقل مبالغ فيه، يصل إلى حد الانحناء للعواصف أحيانا.. نقول لمن أباحوا لأنفسهم مثل هذه المغالطات: إن مصر اتخذت موقفا صارما وعلنيا من دخول أفيجدور ليبرمان حكومة إسرائيل الحالية وزيرا للخارجية، وطلبت رسميا اعتذارا من حكومته عن توقحاته السابقة فى حق مصر ورئيسها، شرطا لقبول الاتصال به على مستوى وزارى محدود، واعتذارا علنيا منه شخصيا شرطا لاستقباله من الرئيس مبارك إذا اقتضت الضرورة. وكان الرد المصرى حادا وصارما على السيدة تسيبى ليفنى وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة عندما وصفت إدارة مصر لمنطقة الحدود مع غزة بأنها إدارة سيئة، وحاولت استعداء الإدارة الأمريكية على مصر، وبنفسه تحدث الرئيس مبارك للتليفزيون الإسرائيلى وقتها مهددا بكشف الكثير مما يعرفه عن قضية تهريب الأسلحة، وما لا يريد أن يقوله.. لأنه على حد تعبيره من جيل لا يقول كل ما يعرفه، وبعدها سكتت ليفنى مرة واحدة وإلى الأبد، أما عندما كان بنيامين نتنياهو رئيسا للوزراء فى المرة السابقة، وحاول استفزاز القاهرة فى عدة مناسبات أبرزها المناورة التدريبية العسكرية الضخمة فى أواخر التسعينيات، فقد وُجه برد حاسم أيضا من الرئيس مبارك شخصيا، ومن بقية المستويات، ورغم عدم موافقتى شخصيا على استخدام الألفاظ النابية فى التحليل والجدل السياسى، فقد كان الاسم الشهير لنتنياهو فى الصحافة المصرية التى لا تمانع فى استخدام تلك الأساليب النابية.. هو «النتن».
إذن هل يمكن لمصر أن تقبل من الشيخ نصر الله أو غيره من الإخوة العرب، أن يستهين بها ـ ولو بحسن نية ـ دون أن يعتبر ذلك رخصة للإسرائيليين وغيرهم للاستهانة بها؟
من حديث مع مصدر متابع لهذه الأزمة منذ بدايتها، ويرصد المناقشات فى دوائر القرار المصرية، فإن هناك اتجاها قويا لإبقاء خط رجعة أمام قيادة حزب الله، فقد تضمنت الرسائل الموجهة إلى هذه القيادة عبر الحكومة اللبنانية، أن مصر لم تضع فى حسبانها، ولم تعتبر أن من مصلحتها يوما الترصد لحزب الله، أو لحركة مقاومة، وأن مصر ليست غائبة أو مغيبة عن المعلومات حول كثير مما كان يجرى ولايزال يجرى، وكثيرا ما كان عدم استجابة مصر لأى تحريض أو ضغط لاعتراض أنشطة معينة لحزب الله وحماس سببا لخلافات عميقة مع واشنطن وتل أبيب، لذلك؛ فإن كاتب هذه السطور يرى أن الرسالة المصرية وصلت بما يكفى من القوة.. وأن حزب الله سيكون مضطرا لإعادة حساباته حرصا على مصر، وعلى صورته العامة، وفضلا عن ذلك فإن مجريات الأسابيع المقبلة والسابقة على الانتخابات اللبنانية، قد تقنع قيادة الحزب بأن حلفاء مهمين له فى الساحة الداخلية قد يتحفظون على مسلكه نحو مصر.. ما يدفعه لمراجعة الموقف ككل.. فيعود إلى طلب الحق وإدراكه.. والحق هنا هو مساندة الشعب الفلسطينى.. وفى الوقت نفسه احترام سيادة مصر ومكانتها وقيادتها ومؤسساتها وحسابات أمنها القومى.