حين هبطت أرض لندن فى ليلة باردة من أواخر ديسمبر عام 1978 كنت مليئا بالعزيمة والأمل، كانت شوارع لندن مليئة بأكياس القمامة السوداء المتكومة على الأرصفة بسبب إضراب عمال النظافة، وكان هذا واحدا فى سلسلة من الإضرابات التى عجلت بالنهاية لحكومة حزب العمال. وكان ذلك نذير البداية للعهد جديد من حكم المرأة الحديدية تاتشر التى دخلت داوننج ستريت بعد ذلك بخمسة أشهر. فى هذه الأشهر القليلة ذقت طعم الحياة فى بريطانيا قبل أن تجرفها أمواج هجمة المحافظين الجدد وتجرف معها قيم مجتمع ما بعد الحرب لتأتى بقيم جديدة جعلت من اقتصاديات السوق المحرك الأوحد للنمو ومن الفردية القيمة العليا للمجتمع، جاءت تاتشر فطوحت بقيم التكافل الاجتماعى وطوحت معها بالاقتصاد المختلط الذى تجاورت فيه الرأسمالية الخاصة إلى جانب ملكية الدولة للقطاعات الخدمية والصناعية العملاقة. فى هذه الشهور الخمسة بهرتنى أشياء بسيطة وجميلة، كان أولها الخدمة البريدية الممتازة، كان البريد يجمع من الصناديق الحمراء ثلاث مرات يوميا وكان يوزع مرتين فى كل يوم وكانت الخطابات تصل حتما فى اليوم التالى، وأحيانا فى نفس اليوم وكان الرد يأتى دوما فى اليوم الذى يليه لأن كل المصالح كانت تتعامل مع الرسائل فور وصولها. بهرتنى أيضا خرائط للشوارع فى كل المدن من الألف إلى الياء، وجدت أن كل شارع وكل حارة فى بريطانيا موجودة فى خرائط تباع فى محطات البنزين. اكتشفت أن معنى ذلك أن الناس تستطيع قراءة الخريطة، يومها حزنت لأهل بلدنا الذين مازلنا نحلم بمحو أميتهم فى القراءة ناهيك عن قراءة الخرائط، وتبين لى معنى مبسط لتماسك النظام فى الدولة المتقدمة حيث ترتبط البيروقراطية بتسهيل حياة الناس وتنظيمها. فى ميس الأطباء كانت زجاجات العصير مرصوصة وكان هناك دفتر بجوارها وكان الطبيب يأخذ ما يريد ثم يكتبه فى الدفتر لتخصم قيمة ما يستهلكه فى نهاية الشهر من راتبه. لم تكن هناك رقابة ولم يكن هناك تلاعب، ببساطة كانت هناك ثقة تشعر أن الكل يعتز بها. وهكذا رأيت فى بريطانيا ما رآه الطهطاوى فى باريس (إسلاما بلا مسلمين).
●●●
وجاءت الانتخابات وشاهدت معركة طاحنة بين حزبى المحافظين والعمال لعب الإعلام دورا هائلا فيها، ورأيت لأول مرة كيف ينقل الإعلام توجهات الناس ثم كيف يتحول بالتدريج من مجرد ناقل، إلى معبر عن رياح التغيير المقبلة، إلى محرك لها فى بعض الأحيان. وسقطت حكومة العمال واكتسح المحافظون وتقدمت تاتشر بثبات إلى مقر رئيس الوزراء وعلقت بلغة رصينة عن الأمل والوحدة والثبات على الطريق. لكنها فى أحد عشر عاما غيرت وجه الحياة الناعم فى بريطانيا وفى العالم، بدأت برنامجا قاسيا لخفض الإنفاق الحكومى، ألغت مشاريع الصحة والطرق والبناء التى كان مخططا لها، ارتفع سعر الفائدة ومعه ارتفعت البطالة. ثم دخلت تاتشر معركة حادة لكسر شوكة اتحادات العمال فى المواجهة الشهيرة مع عمال المناجم الذين سبق وأن أسقطوا حكومة سلفها إدوارد هيث، قررت إغلاق عدد كبير من المناجم مما هددهم بالبطالة ودفعهم إلى الإضراب، لكن المرأة الحديدية كانت مستعدة، كانت قد قررت الاستغناء عن الفحم كمصدر لتوليد الطاقة ولذلك لم يكن الإضراب مخيفا لها بل كان مطلوبا واستمر قرابة عام فى طول البلاد وعرضها، وانقسم عمال المناجم ولم تتراجع تاتشر وانتهى الإضراب وانتهت معه النقابة، ودارت عجلة انتاج الكهرباء ــ من دون الفحم ــ بالغاز والوقود النووى وضربت الحركة النقابية واتحادات العمال فى مقتل.
وفى أوخر عام 85 بدأت تاتشر فى برنامج واسع للخصخصة افتتحته ببيع شركة الاتصالات الشهيرة (BT) للجمهور، وتسارع البريطانيون بسذاجة لشراء الأسهم ونجحت الحيلة وفرح البعض بكسب جنيهات قليلة بينما ارتفعت اسعار الخدمات التليفونية عشرات المرات. واتسع برنامج الخصخصة واشترى أغنياء المحافظين المزيد من الشركات وارتفعت حرارة الاقتصاد، وانتقلت خطوط الإنتاج إلى دول العمالة الرخيصة كالهند وإندونيسيا، فتقلص حجم الطبقة العاملة بمفهومها القديم. ثم تحولت أنظار تاتشر نحو منظومة الصحة الهائلة والتى كانت علامة مضيئة فى الحياة البريطانية ودليلا على قوة مفهوم العدالة الاجتماعية، فبدأت فى تفكيكها. استحدثت طبقة من الإداريين يتحكمون فى العاملين بمجال الصحة وبذرت الفرقة بين الجميع وألقت المنظومة كلها فى دوامة لا تنتهى من السياسات والتعديلات. دب الخوف فى نفوس الأطباء وفى نفوس كثير من الطبقة المتوسطة وبدا واضحا أنه باختفاء البروليتاريا أصبحت الطبقة المتوسطة هى البرولتاريا الجديدة فى نظام رأسمالى جديد بدأ يتخلق على يدى المرأة الحديدية.
●●●
على الصعيد العالمى كانت سياسات تاتشر نموذجا للعنصرية والعدوانية، وقفت بإصرار مع نظام جنوب أفريقيا العنصرى ضد السود ووصفت نيلسون مانديللا بالإرهابى، وكان تأييدها لإسرائيل بلا حدود. ولأن علاقة التبعية الخاصة للولايات المتحدة تظل حجر الزاوية فى سياسة بريطانيا الخارجية فقد زادت تاتشر من ارتباطها بريجان رسول المحافظين الجدد فى أمريكا الذى كان يؤمن بأن نهاية العالم (الأرماجدون) إقتربت وبأن قوى الخير ستنتصر على قوى الشر فى ملحمة عظمى، وبانتظار هذه المعجزة اتجه الاثنان نحو تهديد الاتحاد السوفييتى، وكسر شوكته، ونجحا فى تقويض الدعائم الباقية لنظام كان السوس ينخر فى عصى قيادته منذ سنين كقوارض سليمان. انهارت الدولة السوفييتية وحققت الرأسمالية العالمية أكبر نصر لها، ودخلت عصرا جديدا من الهيمنة على المواطن وعلى الدولة بعد أن زال شبح المساواة الذى كان يأتى من الكتلة الشرقية، لم تعد القيمة الفردية هى الأعلى فباسم الديمقراطية ظهرت ممارسات جديدية من القهر والتسلط فى المجتمعات الغربية مثل رقابة الكاميرات والتليفونات، وانخرطت المجالس المحلية فى فرض مزيد من القيود والرسوم على الناس وازداد الخوف فى المجتمع.
جاءت نهاية تاتشر عندما بدأت تهاجم الحلفاء الأوروبيين فشعر زملاؤها بأنها أصبحت خطرا عليهم. فكروا ودبروا وعلى طريقة الخلاص من يوليوس قيصر فى رائعة شكسبير أغمد كل عضو فى حكومتها خنجرا فسقطت بأيدى وزرائها فى عام 90 وخرجت من داوننج ستريت باكية مهزومة.
لم تكن تاتشر صديقة لأحد، لم تكن لها ابتسامة وكانت تؤمن بالقوة والترهيب ولم تعرف قيما كالعطف أو التآخى، وكانت قاسية نحو الآخرين حتى وزراءها، وفى عهدها أصبحت الحدة والشدة والأنانية سلوكيات مفضلة. وشيئا فشيئا تغيرت الحياة فى بريطانيا أصبح البريد يتأخر ولم تعد المصالح تهتم بالرد على الخطابات بل أصبحت تليفوناتها ترد برسائل مسجلة باردة، وأصبح المواطن أسير نظم وقواعد كثيرة. زادت غرامات الطرق والمرور ورسوم التأمين، أصبحت الخدمات ترفا لا لزوم له لو لم تكن مدفوعة الأجر، ولهذا تدهورت الخدمات الصحية وأصبح العمل كطبيب أقل متعة وأكثر قلقا وتوترا.
●●●
ربما أصبحت بريطانيا أكثر ثراء مما كانت عليه قبل تاتشر لكنها أصبحت مجتمعا أكثر توترا، ضعفت فيها منظومة الأسرة ولم يعد يعبأ الناس فيها لشىء إلا الأمور الذاتية أو الآنية. ولا يزال البريطانيون منقسمين حول تاتشر، فهناك من يعتقدون أنها أفضل من رأس الوزارة بعد تشرشل، لكن هناك من يعتبرون أن تأثيرها كان وبالا على قيم الأسرة والتكافل الاجتماعى. وإذا كان الستار قد نزل عنها بالموت فإنه لم ينزل بعد عن عالم أسهمت فى إنتاجه، شنت فيه حروب ظالمة وازدادت فيه وحشية رأس المال، وبلغ فساد المؤسسات المالية فيه درجات مرعبة أوصلته إلى أقسى أزمة اقتصادية عرفها. وهو الآن يترنح تحت وطأة هذه الأزمة.
استشارى الطب النفسى
وعضو الجمعية الوطنية للتغيير