إحدى الشكاوى الدائمة من الإعلاميين ومحبى اللغة العربية هى انتشار الإعلانات باللهجة العامية أو باللغات الأجنبية، على حساب اللغة العربية الفصحى.. إذا كانت هذه الشكوى حقيقية، فلماذا يغضب كثيرون من إعلانٍ باللغة العربية الفصحى؟
مع بداية شهر رمضان شهدنا إعلانا عن تجمع سكنى بالقاهرة الجديدة، تقوم فيه المطربة أصالة بالغناء باللغة العربية الفصحى ترويجًا لهذا المكان.
بعد ظهور الإعلان ولأيامٍ تالية، انفجرت وسائل التواصل الاجتماعى، بتعليقات معظمها سلبية، عن استخدام اللغة الفصحى.
السؤال: هل هذا التناقض مبرر ومنطقى؟
قبل أن نحكم على الأمر أعتقد أن ما حدث هو من الأعراض الطبيعية لسلوك وسائل التواصل الاجتماعى، التى لا تقوم على منطق أو معايير ثابتة يمكن القياس الصحيح عليها.
هذه الوسائل ومعها غالبية النخبة، دائمة الانتقاد لإهمال اللغة العربية، وهو أمر صحيح، ويتفق عليه الجميع تقريبا. وكان المنطقى أن يتم الترحيب بهذا الشكل الذى ظهر به الإعلان، باعتباره يمجد اللغة العربية الفصحى، ويجعل المشاهدين خصوصا الصغار منهم يتعودون على هذه اللغة.
لكن الذى يحدث أن مجموعة ما يمكنها أن تبدأ فى انتقاد الإعلان، لأى سبب من الأسباب، وبعدها نجد ما يشبه سلوك القطيع يسير وراءها، دون أن يكلف الكثيرون أنفسهم عناء مناقشة الأمر، وهل هو صحيح أم لا، وما هى المعايير التى تم الاعتماد عليها للحكم؟!.
مبدئيا لا أتحدث من قريب أو بعيد عن جوهر الإعلان أوالمنطقة المعلن عنها، ومنشغل فقط بالجدل حول استخدام اللغة الفصحى، التى أثارت كل هذا الجدل.
ومبدئيا أيضا دعونا نتفق على أن صناعة الإعلان الحديثة لم تعد فقط مجرد الترويج والدعاية لسلعة معينة، وإقناع الناس بشرائها، لكن صناعة الإعلان صارت أكثر تعقيدا وتطورا، بحيث إن هناك إعلانات يمكنها أن تقنع الناس بأفكار وآراء واتجاهات مختلفة، لم يكونوا يفكرون فيها.
ومن سوء الحظ أن الجدل الذى صاحب هذا الإعلان، كان يتم بمنطق الأبيض والأسود، مثلما نفعل فى مناقشة كل قضايانا. كلٌ يتمترس حول مع أو ضد، وقليلٌ من يحاولون تقليب الأمر من كل وجوهه.
وللموضوعية، فقد صادفت مقالا على مدونة «إضاءات»، حاول مناقشة الموضوع بصورة عاقلة. هو يقول إن اللغة عموما هى أقوى الوسائل التواصلية القادرة على إحداث تأثير فى الفكر والعقل البشرى، وتحظى باهتمام من جانب المعلنين لتحديد العبارات المستخدمة والمستوى اللغوى المناسب وفقا للجمهور المستهدف، عن طريق دراسات وإحصائيات عن السوق تكون اللغة ركنا أساسيا فيه.
اللغويون يرون ضرورة الالتزام بالفصحى؛ لأنها تمثل هوية وطنية وثقافية ودينية، والمعلنون يرون أن اللغة تحكمها طبيعة السوق المستهدفة، دون التقيد بمستوى لغوى محدد، أو لهجة معينة أو لغة ما، المهم أن تصل الرسالة للجمهور المستهدف.
كاتب التقرير الأستاذ أحمد سامى يقول إنه لهذا السبب فإن لغة الإعلان صارت مجالا خصبا للدراسات والأبحاث؛ لأن الإعلان نفسه صار محورا أكاديميا لدراسة العديد من القضايا مثل الاستهلاك والعولمة والبيئة والرأسمالية والهويات القومية وثورة الاتصالات. الإعلان صار جزءا من ثقافة واقتصاد المجتمع، وجزءا من حياتنا اليومية، ووسيلة لتعزيز صورة الفرد والمجتمع.. ولأن لغة الإعلان أمر معقد بسبب تأثيرها على المتلقين وسلوكهم، فقد باتت تحكمها اختيارات محددة، لتوصيل رسائل، تهدف إلى التأِثير على الأشخاص بنصوصها ورسائلها.
هناك بالطبع جوانب مهمة فى أى إعلان، منها الصور والألوان والخلفيات والأشخاص والكلمات والجمل، وهو ما يتطلب الإبداع والذكاء فى مزج كل هذه العناصر فى إعلان مبهج وجذاب ليقنع المستهلكين بشراء المنتج، انطلاقا من استخدام اللغة الصحيحة والفعالة، وهناك رسالة ماجستير أردنية توصلت إلى أنه من الأفضل أن تكون الإعلانات باللغة العربية الفصحى مراعاة لثقافة الأمة وهويتها ولغتها.
بالطبع هناك إعلانات ناجحة جدا بلهجات المحلية أو بلغات أجنبية. لكن التوسع فى ذلك يوجه ضربة قاضية للغة الفصحى التى ينبغى أن نبذل كل الجهود فى الحفاظ عليها وتحبيب الشباب فيها.
أغنية الإعلان محل الجدل جمعت نجوما فى الغناء والتأليف والتلحين والتوزيع. البعض يعترض من منطق أن اللغة الفصحى، وكل هذا الرقى فى عناصر الأغنية، لا تتناسب مع الدعاية لكومباوند سكنى فاخر. وأن الشركة ربما أرادت التميز، لكن الخلطة لم تكن موفقة، وأن هناك «أفورة» فى الأمر. هذا رأى نقدره، لكن من ناحية أخرى هناك رأى يقول إن الإعلان نجح جدا، والدليل أن الجميع انشغل به تقريبا.
فى النهاية نحتاج إلى الهدوء والتروى فى مناقشة كل قضايانا، من أول شكل ولغة الإعلانات التجارية، ونهاية بكيفية تطوير التعليم والصحة وماذا نريد من المستقبل!!.