قبل أن تهب عواصف النار على ليبيا لم يكن العقيد «معمر القذافى» بوارد التفكير فيما قد يحدث من تطورات وتداعيات تطيح بنظامه وتقوض بلاده وتغتاله هو نفسه.
قبل نحو عشر سنوات، (17) يوليو (2010)، صاحبت الأستاذ «محمد حسنين هيكل» فى زيارة استثنائية إلى طرابلس، شاهدًا مؤتمنًا على آخر حوار ضمه إلى العقيد الليبى.
كانت الرحلة بالذهاب والعودة فى اليوم نفسه على طائرة خاصة أرسلت إلى مطار العلمين على الساحل الشمالى.
بالمصادفة هبطت طائرة صغيرة تحمل الرئيس الأسبق «حسنى مبارك» والسيدة حرمه قبل أن نقلع، أبلغته سلطات الأمن أننا فى طريقنا الآن إلى طرابلس.
اتصل على الفور بـ«القذافى» سائلًا: «ما الذى يريدانه؟».
بعد السؤال المستغرب، الذى لم يتوقف عنده «القذافى» ولا اهتم به «هيكل»، كان هناك سؤال آخر شغل بال العقيد الليبى عن مستقبل الرئيس المصرى نفسه، والأخبار التى تخرج من القاهرة تتحدث عن مأزق يصعب تجاوزه.
بالقرب من هبوب العواصف لم يكن مستعدًا أن يطرح السؤال نفسه على ما يجرى فى ليبيا، ولا ما إذا كان بقاؤه فى السلطة ممكنًا بعد أكثر من أربعين سنة فى السلطة.
وقائع الحوار جرت فى باب العزيزية، الذى كان مقرًا للقيادة الليبية فى طرابلس، وهو أقرب إلى أن يكون قلعة.
كانت خيمة «القذافى» قريبة، ولكنه فضّل أن يستقبل ضيفيه فى حديقة تطل على أطلال بيته القديم، الذى قصفته بقسوة الطائرات الأمريكية على عهد الرئيس «رونالد ريجان»، وقد تحول إلى متحف ومزار قبل أن يهمل أو يستكمل هدمه.
لم يكن هناك أى مظاهر لأبهة الحكم، فأعشاب الحديقة لم تكن قد هذبت منذ فترة طويلة نسبيًا، وعلى مرمى النظر مواشٍ وإبل وأغنام وراء سور خشبى.
ارتدى «القذافى» بدلة خضراء نقشت عليها خريطة إفريقيا بصورة متكررة، وفوقها عباءة بنية.
كان ذلك الزى من بعض تقاليعه، التى استخدمت للإساءة إليه والنيل منه ووصفه بالجنون، حسب الصورة التى ألح عليها الرئيسان «أنور السادات» و«حسنى مبارك» وقادة عرب آخرون.
لم يكن مجنونًا، فهذا محض هراء شاع.
كانت له شطحاته التى تستعصى على التفسير، لكنه وظفها لما يطلب ويريد.
كان ذلك واضحًا عندما أخذت الحوار إلى منطقة محظورة، لكنه لم يستفز، وبدا هادئًا تمامًا، لم يرد على ما قلت وأخذ الكلام إلى مناطق أخرى.
تحدثت عن التنازلات التى قدمتها ليبيا للإدارة الأمريكية حين أقدمت بعد احتلال العراق على القبول غير المشروط بتفتيش دولى عن أسلحة الدمار الشامل والالتزام بالتخلص من أى قدرات قد تتيح لها إنتاج مثل تلك الأسلحة وتدمير أى صواريخ تفوق المدى المعترف به أمريكيًا، وتسليم أى وثائق عن برامج أو مشروعات لإنتاج أو حيازة أسلحة للمخابرات الأمريكية والبريطانية.
ثم تطرقت للدعاوى القضائية التى رفعها ممثلوه القانونيون ضد أربعة وثلاثين صحفيا مصريا، كنت بينهم، انتقدوا ذلك النهج.
سأل بهدوء بالغ: «متى ذلك؟».
قلت: «فى ديسمبر عام ٢٠٠٣».
استمع العقيد «القذافى» إلى ما قلت كأنه لم يكن يعرفه.
قال: «هل يعجبك الوضع العربى، وهل يعجبك حسنى مبارك الذى يعتبر القومية العربية موضة قديمة؟!».
هكذا غيّر مسار الحديث، وهو رجل عوّد نفسه على التحدث فيما يريد لا فيما يطرح عليه.
على عكس التصورات التى شاعت عن اندفاعاته التى لا تعرف سقفًا أو حدًا بدا فى ذلك اليوم هادئًا، يتحكم فيما يريد قوله، وإذا ما أفلتت العبارات فإنه يلفت الانتباه أن ذلك ليس للنشر.
على طريقته الخاصة اللاذعة وصف القمة الثقافية العربية كانت مرتقبة وقتها برئاسته بأنها شيء يدعو للسخرية فـ«أية قمة ثقافية لهؤلاء الحكام الجهلة».
سألته عما نشر فى ذلك الصباح عن صفقة الإفراج عن «عبدالباسط المقراحى» المتهم الرئيسى فى قضية «لوكيربى».
بإجابة مقتضبة قال: «نحن جاهزون»، ملمحًا لقدرة بلاده على مواجهة أى احتمالات للتحرش العسكرى، لكنه لم يتخيل ما حدث فعلا من غزو عسكرى بقيادة حلف «الناتو» لتصفية حسابات قديمة معه.
عندما هبت العواصف الدموية لم يكن هناك جيش بأى معنى كلاسيكى يعرفه العالم، رغم خزائن السلاح، التى استخدمت بعد إطاحة «القذافى» فى تسليح الميليشيات المتنازعة، أو هربت عبر الحدود إلى مصر وعبر تركيا إلى سوريا.
كانت تلك مأساة ساعدت جماعات العنف والإرهاب، كأنها هدايا مجانية.
بحكم تكوينه الشخصى والفكرى لم يكن «هيكل» معجبًا به، لكنه لم يعتبر ما جرى ضده «ثورة».
كانت دواعى التغيير ضرورية للالتحاق بالعصر ونظمه الحديثة، غير أنه لم يكن مستعدًا أن يتغافل عن الدور المركزى الذى لعبه الرئيس الفرنسى «نيكولا ساركوزى» فى التخطيط والحركة والتعبئة والتسليح والتمويل لإسقاطه، وهو الرجل الذى تقاضى ــ وفق تحقيقات فرنسية رسمية ــ رشى من «القذافى» نفسه، وحصد بعد خروجه من السلطة منصبًا شرفيًا كمستشار لإحدى الدول الإقليمية التى شاركت فى غزو ليبيا وتسليح ميليشيات متطرفة باسم الثورة بقيمة (٥) ملايين يورو سنويا ــ حسب تدقيقه فى الرقم.
كما لم يكن مستعدًا أن يتغافل عن دور مهم فى التعبئة العامة لإسقاط «القذافى» لعبه الفيلسوف الفرنسى الصهيونى «برنارد هنرى ليفى»، الذى تولى تقديم بعض وجوه المعارضة الليبية إلى مراكز النفوذ، بما فيها وزيرة الخارجية الأمريكية «هيلارى كلينتون»، وقد اعتبر نفسه ــ بحسب ما كتب وروج ــ أبًا روحيًا للثورة.
قرب النهاية بدا «القذافى» شبه معزول، يحاربه خليط من ثوار تحركهم المثل العليا، وجماعات عنف وإرهاب طلبًا لدولة إسلامية، وانتهازيين بأسباب مختلفة، وكلاب صيد خرجت لتصفية حسابات قديمة مع ما انتهجه من مواقف أضرت بمصالح كبرى.
كان آخر ما قاله «هيكل» لـ«أحمد قذاف الدم»، الذى صاحبنا طول الرحلة، عند باب الطائرة وهو يغادر طرابلس: «لن أرى ابن عمك مرة أخرى».
وكانت تلك نبوءة.