كانت تلك فترة حافلة بالتغيير الديناميكى الكبير فى مسارات السياسة الخارجية المصرية حقا، منذ أول 2014 حتى أول 2016، وخاصة خلال السنة الذهبية 2015، وبصفة أخص عقب وفاة العاهل السعودى الملك عبدالله، سعيا إلى إحداث تحول هيكلى عميق فى شبكة التحالفات المصرية على الصعيدين الاقليمى والعالمى، لتجاوز آثار الجمود الذى ران عشرات السنين على الدور المصرى فى حقبة (السادات ــ مبارك).
***
فجأة توقف السيل الهادر لديناميكية السياسة الخارجية المصرية. كان سقوط الطائرة الروسية فوق سيناء أواخر 2015 حدثا فاصلا بين عهدين، فيما يبدو، خاصة مع اللهجة شبه العدائية من الجانب الروسى إزاء مصر آنئذ، مما بدا عبر عملية «الإخراج المسرحى» لفرضية «القنبلة» من الجانب الروسى، ومن طرف واحد، ومن ثم إيقاف رحلات الطائرات الروسية إلى شرم الشيخ، ورحلات (شركة مصر للطيران) إلى المطارات الروسية، وبالتالى توقف حركة السياحة والصادرات الغذائية المصرية من الخضر والفواكه. وخيم الجمود والتباين على ملفات التعاون الاقتصادى خاصة مشروع المحطة النووية فى منطقة «الضبعة»، وكذا الحوار الدبلوماسى، ولم لا نقول التعاون العسكرى أيضا، أو هكذا بدا الأمر.
وقد ظهر أن الدولتين أخذتا على عاتقيهما أداء لعبة «عض الأصابع» فى محورين متبادلين: القبول بعقد «الضبعة» وفق الشروط الروسية، مقابل عودة السياحة الروسية إلى المطارات المصرية، والعكس، وبالشروط الروسية أيضا. وتمنع بادٍ من الطرف المصرى إزاء هذا وذاك.
وحدث نوع من (تعليق) التعاون الكبير المتوقع مع الصين، على وقع توقف مشروع القطار الكهربائى على تخوم القاهرة، بين رغبة صينية فى التنفيذ بأسلوب «القرض»، ورغبة مصرية فى التنفيذ عن طريق «الاستثمار المباشر». كما لم يحدث تطور، فى الملف الهندى.
أما العلاقات مع إفريقيا فلم تتجاوز ما تم عقده من اتفاقات ثنائية ومتعددة الأطراف، خاصة فى ضوء جمود هيكل الانتاج والتصدير المصرى، وعدم القدرة فيما يبدو على تلبية احتياجات الأسواق الإفريقية النهمة إلى السلع والخدمات.
أما الاستثمارات الأجنبية المباشرة فلم يصل منها سوى النذر اليسير (خاصة من شركة «سيمنس» فى مجال الطاقة) ولم تحدث انطلاقة مرجوة لتنمية محور قناة السويس بالذات، إذ لم يصدر فيما يبدو «ضوء أخضر» من الدول الكبرى فى الغرب (الولايات المتحدة بالذات) للشركات عابرة الجنسيات، من أجل تدفق الاستثمارات الداخلة إلى مصر، على غرار ما حدث مع الصين مطلع الثمانينيات. وكأنما هناك قرار مستديم بعدم السماح بتحقق التنمية فى إحدى الدول العربية الكبيرة على وقع (النفط) و(إسرائيل).
***
وهكذا تركت مصر لفترة، فيما يبدو، نهبا لجفاف الموارد (خاصة بعد وفاة الملك عبدالله، وإطلاق «عاصفة الحزم» فى اليمن دون إسهام مصرى تقريبا). وكان أن استعانت مصر بمواردها الذاتية الشحيحة على تنفيذ المشروعات الطموحة لرئيسها الجديد (المشروع الوطنى للطرق – استصلاح الأراضى – محطات الطاقة – بناء المدن وخاصة العاصمة الإدارية الجديدة ــ الإسكان الاجتماعى.. إلخ).
ولما لم تتوافر لدى مصر موارد محلية كافية نسبيا، فقد اضطرت إلى الاعتماد على الاقتراض الداخلى (بآليات طرح أذون الخزانة و«استمراء» – واستمرار ــ السحب من رصيد صناديق التأمين والمعاشات) والاقتراض الخارجى بالشروط التجارية أحيانا، أو بالشروط التيسيرية غالبا من دول الخليج والبنك الدولى وبنك التنمية الإفريقى، مع تفكير فى طرح سندات دولارية فى بعض أسواق المال الدولية. كانت النتيجة ارتفاع حجم السيولة النقدية، من جهة أولى، وانخفاض قيمة العملة المحلية (الجنيه) من جهة ثانية، مع جهد لمحاولة مواجهة التضخم النقدى الناتج عن تعاظم السيولة، عن طريق رفع أسعار الفائدة، بآثاره الانكماشية. كان ذلك نوعا من مداواة الداء بداء جديد: محاولة علاج التضخم بالانكماش، فيكون ثمة تضخم وركود فى آن معا فيما يسمى (الركود التضخمى أو التضخم الركودى Stagflation).
ودع عنك تزايد أعباء الفوائد المدفوعة على الدين العام المحلى (والمحملة على الموازنة العامة للدولة والتى تنوء بالعجز) وعلى القروض الخارجية (بالسحب من الاحتياطى النقدى للعملات الأجنبية لدى البنك المركزى) مما زاد الضغط على سعر الصرف، وخاصة مع التزايد المضطرد لقيم الواردات «سواء منها الضرورية أم الكمالية أو «التفاخرية»، وارتفاع مستوى العجز فى الميزان التجارى.
وقد استنفد رئيس الجمهورية جل جهده الاقتصادى فى متابعة تنفيذ المشروعات الوطنية العملاقة، وتدبير التمويل اللازم لها بالاقتراض (الحسن) داخليا وخارجيا، مع إيكال التنفيذ إلى الهيئة الهندسية للقوات المسلحة –المؤسسة الوحيدة تقريبا المتبقية من «شبه الدولة» المصرية بعد ثورة 25 يناير، لما تملكه من قدرات فنية وتنظيمية عليا.
***
وقد بدأت الهمهمة فى هذا السياق مجددا حول عسكرة الاقتصاد، وتغلغل المؤسسة العسكرية فى أحشاء الدولة شبه المدنية الوليدة، بينما تركت البيروقراطية العليا، ممثلة فى الطاقم الاقتصادى للحكومة، تعيث إهمالا وجمودا فى «الاقتصاد القديم» – خارج المشروعات العملاقة – فلم يحدث تطوير ملموس، بل ربما حدث (تراجع ملموس) فى الزراعة والصناعة وبعض الخدمات، إضافة إلى ما حدث من انهيار شبه كلى لقطاع السياحة إثر حادث الطائرة الروسية فوق سيناء.
فهل تفاعل التضخم الركودى على صعيد الاقتصاد الداخلى، مع افتقاد الديناميكية على صعيد السياسة الخارجية؟ ربما. ولكن الأمر المهم أن استعادة ديناميكية السياسة الخارجية، واستعادة ديناميكية النمو الاقتصادى فى القطاعات الانتاجية (القديمة) أمران متلازمان. وإذا شئنا التركيز فى هذا المقام على السياسة الخارجية فإننا نشير إلى رءوس أقلام جد مهمة لا تحتمل الانتظار، فى مقدمتها:
1ــ معالجة حصيفة لملف العلاقات المصرية مع المملكة العربية السعودية وهى الحليف الوحيد الباقى لمصر تقريبا الآن، بعد جفاف فى ينابيع الديناميكية للسياسة الخارجية المصرية، فيما قد يبدو، مقابل النهج «الهجومى المبادر الوثاب، أو «الاقتحامى»، من طرف القيادة السعودية الجديدة. وقد بدا ذلك فى ملف الجزيرتين (تيران وصنافير) وما رافقه من ضغط مبرمج بالأدوات الناعمة والخشنة معا. لقد حالت ردود الفعل الشعبية داخل مجتمع ما بعد 25 يناير 2011 فى مصر دون تحقق ما كان يصبو إليه البعض من (إذعان) مصرى خالص، وربما تميل القيادة السياسية المصرية ناحية قطاعات واسعة من شعبها ونخبتها من أجل طلب إعادة التفاوض حول ملف الجزيرتين، من يدرى؟.. وقد نخاطر ههنا باقتراح «حل وسط تاريخى» قوامه ما يلى: (قبول على مضض) من جانب الدولة المصرية بالسيادة السعودية على الجزيرتين، مع توافق حول (اقتسام الإدارة) بين البلدين، وخاصة فى «تيران».. فهل ينجح الفصل بين السيادة والإدارة فى هذا الملف الساخن، وما البديل إذن؟
2ــ إعادة النظر فى الملف السودانى ــ الاثيوبى، عبر العمل على «استمالة» السودان. وقد يكون من المناسب هنا أن تتقدم مصر، ولو بطريق غير مباشر، بعرض (اختراقى) لقضية (حلايب وشلاتين) باقتراح إقامة مشروعات مشتركة (سودانية – مصرية) يكون للجانب السودانى فيها وجود ملحوظ، يراعى الحساسية التاريخية، ويحول دون تفاقم نزعات لا محل لها بين شقيقين حول حدود هى فى حقيقتها (جروح)، كما قيل بحق. ومع (استمالة) السودان يمكن تحقيق نقلة جوهرية فى موضوع (سد النهضة) بما يحقق (توازن المصالح) بين الدول الثلاث بديلا عن مجرد (توازن القوى).
3ــ العمل على تحقيق نوع من «النغمة الصحيحة» فى العلاقة بين السعودية وإيران، ومن بعدها – ربما – العلاقة بين مصر وإيران، لإيقاف مسار (الانتحار الجماعى) الراهن على الصعيد الإقليمى، إذا صح هذا التعبير، وقطع الطريق، من ثم، على إسرائيل الساعية بقوة إلى استغلال التناقضات الإقليمية لصالحها فى المقام الأول، كما بدا من استعادة العلاقات مع تركيا أخيرا.
4ــ فتح ملف العلاقات المصرية الروسية، انطلاقا من معالجة ثنائية (عقد الضبعة/عودة السياحة الروسية)، وليكن عملُ مصرى من أجل اجتذاب الصين للوساطة من أجل تحسين العلاقة مع روسيا. ولا بأس من الاستجابة لقدر من المطالب الروسية حول تأمين المطارات المصرية، مقابل العمل على «تليين» الموقف الروسى بشأن شروط تمويل المحطة النووية العتيدة.
5ــ على الصعيد العربى، إن ما سبق يمهد الطريق لمصر من أجل الخروج من (الخندق) أو (النفق) الذى دخلته طوعا أو كرها خلال الشهور الأخيرة. ولتكن هناك مواقف معلنة أكثر وضوحا فى استقلاليتها، بشأن تطور الأحداث فى سوريا بالذات، وكذا اليمن وليبيا، سعيا إلى بناء دور مصرى عربى وإقليمى أكثر فاعلية.
وتلك مجرد مقترحات نقدمها كرءوس أقلام إلى متخذ القرار الوطنى وأجهزة صنع السياسة الخارجية، آملين فتح آفاق جديدة مثمرة حقا.