يبدو أننا بالفعل الآن نقف على أعتاب مرحلة جديدة تماما من مراحل تطور الحضارة البشرية على الأرض، داهمتنا تلك الجائحة الفيروسية لتطال كل مكان، آهل بالسكان، فلم تزر بقعة واحدة على وجه الكرة الأرضية ما دون إصابة، أطلقت رصاصة الرحمة على فكرة العولمة التى تحمس لها العالم وظن أنها ستعصمه من الغرق. كالنار فى الهشيم انتشرت العدوى حتى صار التباعد الاجتماعى مطلبا أساسيا فى محاولة للوقاية من خطر انتقال العدوى والعزل المنزلى أهم مرحلة فى العلاج. لم يعد من المألوف أن تصافح صديقا أو تعانق طفلك أو تعبر عن شعورك بأى صورة من صور التلامس الحميم لمن تحب. حتى الأفراح توقفت والمآتم اقتصرت على ما اعتدنا أن تكون من مظاهر المشاطرة بالالتفاف حول أهل الفقيد. تجمدت وسائل الاتصال بين بلاد العالم وتوقف الانسان عن السفر مهما كان السبب. حتى العلم تقطعت السبل بين طالب العلم وأستاذه، واقتصر الأمر على تلقى العلم عبر التقنيات الحديثة وشاشات الكمبيوتر.
بدا الأمر كما لو أن هناك قطيعة بدأت بين الانسان وبين مظاهر حضارته التى امتدت على مر زمان عاشه على الأرض، وأن عالما جديدا بدأ يتكشف لا علاقة له بما كان!
المتطيب عن بعد «Tele - medicine» أو استخدام وسائل التكنولوجيا الطبية فى تشخيص وعلاج الانسان فى أماكن نائية لا تتوافر فيها مراكز طبية عالية الكفاءة إحدى الوسائل التى أتاحها العلم للمعاونة فى تقديم الخدمة الطبية للإنسان، بدا فكرة مدهشة فى ظل ملابسات التباعد الاجتماعى التى فرضتها جائحة كوفيد ــ ١٩ على الواقع الذى يواجهه الانسان. بدلا من الانتقال إلى عيادة الطبيب أو المستشفى بوسائل المواصلات والتعرض لمزيد من احتمالات العدوى وضرورة أن يتحصن الطبيب وراء وسائل الحماية التى تعوق حركته وتنفسه.
وفى ظل معرفة الجميع الآن طريقة تشغيل برامج الكمبيوتر ــ ربما لا ينطبق هذا علينا فى بلادنا بصورة كاملة ــ يستطيع الانسان أن يستفيد من حوار يمتد بينه وبين الطبيب فى تشخيص حالته وعلاجها وتلقى الارشادات التي قد تعجل بشفائه وحماية من حوله.
مقابلة مرئية بين المريض والطبيب قد تبدو فكرة مقبولة علميا، ولكن هل تحظى بذات الدرجة من القبول لدى المريض؟
العيادة الافتراضية «Virtual clinic» وجدت قبولا مبدئيا لدى الكثير من المرضي والأطباء خاصة خلال انتشار عدوى كوفيد ــ ١٩ خاصة لمن كان لهم العزل المنزلى ضرورة بدلا من الذهاب إلى المستشفيات والاحتجاز بها، الأمر الذى يشكل خطورة أكبر عليهم من انتقال العدوى بصورة أكثر خطورة للمأكولات البسيطة من العدوى.
جرت التجربة بنجاح فى الكثير من دول العالم فكانت الأمور أقل وطأة على المرضى والأطباء. العلاقة مازالت قائمة بين المريض وطبيبه، وإن كانت فى ساعات ومواعيد محددة وقد تحل الممرضة محل الطبيب فى الحالات الاعتيادية لتوجيه الارشادات وطريقة استعمال الأدوية المختلفة وطرق مكافحة العدوى.
الواقع أننا استبدلنا العيادة الافتراضية فى بلادنا بخاصية «الواتس آب» أو الرسائل المتبادلة عبر الهاتف، فقد تطوع الكثير من الاطباء للإجابة عن تساؤلات المرضى بتلك الوسيلة بل ولعبت وسائل التواصل الاجتماعى الآخر دورا لا يقل أهمية عن الرسائل الخاصة.
العلم فى زماننا يعيد ملامح حضارة الانسان على الأرض.. فهل ينجح فى أن يحتفظ للإنسان بإنسانيته أم أن سيغفل أمرها لتتراجع فى جزء لا يضاهى من العلم فى معركته مع الفيروس التاجى صاحب السلطان فى أيام الكرب. يا رب.. علمت الانسان ما لم يكن يعلم فألق عليه ظلك واحفظه بعلمك يا عليم، ولا تتركه لعلمه.