أمريكا اللاتينية.. أسباب للاهتمام بها - جميل مطر - بوابة الشروق
الجمعة 13 سبتمبر 2024 2:23 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أمريكا اللاتينية.. أسباب للاهتمام بها

نشر فى : الأربعاء 14 أغسطس 2024 - 8:40 م | آخر تحديث : الأربعاء 14 أغسطس 2024 - 8:40 م

أسباب كثيرة سوف تكون وراء ضرورة اهتمامنا، نحن العرب والمصريين بينهم، بدول أمريكا اللاتينية. أكتب بصيغة المستقبل وأنا مدرك لشدة انشغالنا بتطورات غير مسبوقة فى منطقتنا. أكاد أعمم فأجزم بأنه لا توجد فى المنطقة العربية دولة لا تواجه تحديات تتفوق على قدراتها الفاعلة وإمكاناتها المعبأة مما يجعلها غافلة فى اللحظة الراهنة عن أهمية أمريكا اللاتينية فى حسابات للمستقبل.

بين الأسباب سبب شخصى جدا. عشت هناك أربع سنوات قبل ستين عاما. كانت بالنسبة لى مرحلة هامة من مراحل تكوينى الدبلوماسى والسياسى والشخصى. رحت هناك على خلفية تجربة آسيوية قصيرة فى الهند والصين وتجربة أوروبية أطول فى إيطاليا ومحملا برغبة دافقة لضرورة التعرف على ثقافة سياسية كنت أسمع أنها مختلفة.
الأسباب الأخرى كثيرة أنتقى منها، من وجهة نظرى، أقواها تأثيرا فى تاريخنا وفى مسيرة بلادنا الأيديولوجية والسياسية. أنتقى مثلا مجموعة توجهات وعقائد وسلوكيات كانت أمريكا اللاتينية أسبق منا إلى اعتناقها أو الأخذ بها أو كانت نموذجا جاهزا لنا، وأقصد لبعض نخبنا الحاكمة، لتقلده.
أولا: التنمية المستقلة. كنا شهودا على مرحلة بدأت هناك فى دول بعينها من دول القارة اللاتينية اقتنع بعض أساتذة الاقتصاد والاجتماع فيها وفى مصر على وجه التحديد بسياسات ومناهج التخطيط الاقتصادى القائم على مبادئ التنمية المستقلة والاعتماد على الذات. وجدت هناك من يتابع جهود دعاة التنمية المستقلة فى التجربة المصرية، وأذكر جيدا أن جاءنا فى سفارة مصر ببيونس آيرس من جهات مصرية مسئولة استفسارات عن تفاصيل تجارب أكاديمية وواقعية جربتها دول فى أمريكا اللاتينية. تعرفت عند عودتى لمصر على شخصيات كانت تفخر بانضمامها ذات يوم إلى هذه المدرسة والاستفادة منها فى فكر التنمية المصرى وأدائه.
ثانيا: كان مثيرًا لنا، كباحثين فى العالم العربى كما فى أمريكا اللاتينية، التعرف على الأصول التاريخية والثقافية لظاهرة تدخل العسكريين فى السياسة والحكم. ساد فى زعم الطرفين حكاية أن أصل الظاهرة مغروس فى شخصية القادة العسكريين الذين أوكل إليهم مهمة فتح أمريكا الجنوبية لصالح إسبانيا والبرتغال. ساد زعم آخر يتعلق بطبيعة المهاجرين وأسباب هجرتهم، فالفاتحون الإنجليز والفرنسيون لم يخلفوا فى أمريكا الشمالية ثقافة الهيمنة العسكرية على عمليات صنع السياسة بينما خلف الجنود الذين استوطنوا القارة الجنوبية ثقافتهم العسكرية. قيل أيضا فى هذا الصدد أن المهاجرين الذين نزلوا فى القارة الشمالية وجدوا السكان الأصليين يعيشون فى ظل نظام قبلى طبيعته الانفراط ولا يخضعون لإدارة أو حكم مركزى على عكس معظم المهاجرين من شبه الجزيرة الإيبيرية إلى أمريكا الوسطى وشمال أمريكا الجنوبية، هؤلاء تصدى لهم نظام إمبراطورى بمركزية مشهودة وحضارة راسخة.
على الناحية الأخرى فى الشرق الأوسط ساد زعم أقرب إلى المزاعم السائدة إلى يومنا هذا فى أمريكا اللاتينية. الزعم أننا ورثنا من الثقافة الإسلامية عسكريتها وربما ورثناها لحكام الأندلس ومنهم إلى خلفائهم المسيحيين الفاتحين للقارة الجديدة، ورثناه أيضا لحكام العصر المملوكى ومنهم إلى ولاة الإمبراطورية العثمانية. على كل حال فإننا فى مصر لم نبتدعه فقد سبقنا إليه الجنرالات السوريون الذين دشنوا الحكم العسكرى فى مرحلة مبكرة من مراحل استقلال سوريا وبالتأكيد لم تكن مصر أول من دشنه فى الشرق الأوسط فى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
يهمنى فى هذا السياق الإشارة إلى حقيقة عشتها فى الأرجنتين فى ظل حكم عسكرى سبقه حكم مدنى وهى القدر العالى من احترام قادة العسكريين هناك لقادة جيش مصر فى ذلك الوقت والاهتمام بأفكارهم السياسية. قيل لى وقتها من دبلوماسى أرجنتينى خدم فى القاهرة، وكانت بلاده تحكمها حكومة مدنية، أن بعض قادة الجيش فى وطنه كانوا يطلبون من أفراد فى السفارة تقارير سرية عن سياسات الجيش المصرى الداخلية والخارجية وأساليب إدارته لهذه الشئون وتلك.
• • •
ثالثا: كنت هناك فى شيلى ثم فى الأرجنتين عندما بدأ المهاجرون العرب، وأكثرهم من الجيل الأول، يشعرون بأن أمريكا اللاتينية صارت وطنا أول يستحق الاستقرار فيه بشكل دائم، وكثيرون أعرفهم من أبناء الجيل الثانى اندمجوا فعلا فى الحياة السياسية فى بلاد المهجر، وتخلوا عن نوايا الأهل من الجيل الأول وفى صدارتها جمع الثروة بسرعة والعودة لـ«لبلاد»، كما كانوا يطلقون على مساقط رءوسهم. عدت بعد عشرين عاما لأجد كثيرين وقد صاروا بالفعل نوابا وقادة أحزاب بل ورؤساء فى عدد من الدول.
عدت لأجد هؤلاء وقد اختلفوا عن آبائهم فى أمور أخرى ليست أقل أهمية. رأيتهم، عن غير تعمد، يشكلون على اختلاف توجهاتهم السياسية نواة شبكة صد للنشاط الصهيونى فى بلادهم الجديدة. اليوم وأنا أستعيد الحوارات التى دارت مع كثيرين من أبناء المغتربين خلال رحلة بحثية شاركنى فيها من الأردن مصطفى الحمارنة ومن سوريا بسمة قضمانى، أكتشف مجددا أن إسرائيل سوف تجد قطاعات واسعة فى شعوب دول كثيرة فى أمريكا اللاتينية تقف متصدية لأنشطة أجهزتها الصهيونية. سوف يتكرر فى أمريكا الجنوبية وبشكل أوسع ما قدمته الأجيال الجديدة من أصل عربى فى أمريكا الشمالية وعديد دول أوروبا وكندا من معارضة قوية لعمليات الإبادة الإسرائيلية لشعب فلسطين. هناك فى كل المهاجر ينمو ويتشعب تهديد قوى، وقد يصبح حاسما، للنفوذ الصهيونى فى دول الغرب. لا أستبعد، على كل حال، أن تشتغل إسرائيل ومنظماتها الأخطبوطية، من الآن على استنفار عملائها وأبناء دينها وبعض حكومات أمريكا اللاتينية من أجل وقف هذا التمدد فى التأييد للفلسطينيين ومن أجل العمل على تعزيز مواقع النفوذ الصهيونى وبخاصة فى الأرجنتين حيث توجد أكبر ثالث جالية يهودية فى العالم.
رابعا: بعد عقود تباعدنا فيها نعود تدريجيا لنلتقى، أقصد عالمنا العربى وأمريكا اللاتينية، على أوجه شبه. هنا أيضا أنتقى بعضا من هذه الأوجه أراه منفتحا على مستقبلات متقاربة إن لم تكن متشابهة. انتقيت ما يلى: (1) انسداد فى كثير من شرايين تجارب التنمية فى العدد الأكبر من دول الإقليمين. أراه مؤشرا لمراحل عدم استقرار قادمة. (2) تضخم الطبيعة الشبابية للسكان فى جميع دول أمريكا اللاتينية والدول العربية وتشابه انعكاسات هذه الطبيعة على كثير من سلوكيات السكان ومن بينها الزيادة فى معدلات هجرة الشباب إلى الولايات المتحدة وأوروبا على التوالى وما يتبع ذلك من مشكلات سياسية واجتماعية لكل الأطراف. (3) اقتراب متوازن ومتزايد من جانب دول عربية من كل من الصين وروسيا. هناك توجه واضح من جانب القوى المؤسسة لمجموعة البريكس لتشجيع دول من المجموعتين للانضمام. (4) فى الوقت نفسه وربما للسبب نفسه بدأت تهب على كل من أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط رياح حرب باردة جديدة مصدرها التصعيد المتزايد للتوتر فى العلاقات بين أمريكا من ناحية وكل من روسيا والصين وكوريا الشمالية وإيران من ناحية أخرى. راجع معى دعوة يسار كولومبيا إلى عقد «مؤتمر عموم أمريكا» يضم جمعيات فى ست دول من أمريكا اللاتينية لمناقشة سياسات الولايات المتحدة فى القارة. (5) لا أشك للحظة واحدة فى صحة الاقتناع السائد لدى قطاعات رأى بأن الحرب التى تشنها إسرائيل ضد الفلسطينيين بمساعدة أمريكية خارجة عن المألوف، هذه الحرب تجر فى أذيالها عواقب بلا حدود ليس فقط على مستقبل المشاركين المباشرين فى هذه الحرب ولكن أيضا على مجمل العلاقات الدولية والمؤسسات الأممية ومبادئ القانون الدولى.
• • •
الاهتمام بأمريكا اللاتينية صار ضرورة، وأسبابه كثيرة. أوضحت بعضا منها. أغفلت ذكر بعض آخر وأكثره يتعلق بالوضع الراهن لحال النظام الإقليمى العربى، وبالآثار المتوقعة، منها المباشر وغير المباشر، لحرب إسرائيل على فلسطين، وأغلبها ينضج على نار متعددة المصادر.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي