لم أستغرب التصريح المنسوب لوزير إماراتى للوفد الحكومى المصرى مؤخرا بأن المساعدات لمصر لن تستمر طويلا فقد استمعت لنفس الرأى من السفير الروسى فى بريطانيا عندما حضرت ندوة فى الشهر الماضى عن الشرق الأوسط بمجلس العموم البريطانى نوقشت فيها القضية الفلسطينية والأزمة السورية. فى النصف الأول لام المتحدثون من البرلمانيين البريطانيين إسرائيل لمسئوليتها عن تعثر مفوضات السلام، وصاح السياسى العمالى العتيد جاك سترو اليهودى الأصل فى ممثلة إسرائيل «أنتم تسرقون أرض الفلسطينيين». كان هذا النصف من الجلسة مباراة سهلة لا تكلف شيئا فى قضية شبه محسومة استعرض فيها الساسة مهاراتهم فى إدعاء الحيدة. أما فى النصف الثانى فقد تبارى المتحدثون فى تشويه صورة ما حدث فى سوريا، تأسفوا على ضحايا النظام السورى، وتناسوا فظائع الإرهاب باسم الإسلام، واتهم احد النواب المتصهينين نظام بشار بقتل المسيحيين رغم التقارير المتتابعة عن إبادة الإسلاميين لقرى مسيحية بأكملها. تباكى النواب على حظر الطيران. وبدأوا فى توجيه لوم مستتر نحو السفير الروسى الذى رد فى هدوء وثقة «نحن لم نأخذ جانب أحد، كل ما أردناه هو عدم التدخل لغلبة طرف على الآخر»، ثم أكد أهمية التفاوض فى مؤتمر جنيف الثانى. كانت الندوة نموذجا مألوفا للعقلية البريطانية تسعى للخروج من أزمة الخسارة بلى الحقائق وادعاء التعادل.
بعد انتهاء الندوة توجهت للسفير الروسى أسأله: هل تساعد روسيا مصر فى أزمتها الراهنة فنظر لى مبتسما، وقال: نحن نساعد مصر بأكثر مما يتصور كثيرون. فسألته ماذا يتصور بالنسبة لحل الأزمة فقال لى: لا أحد يستطيع حل أزمة المصريين إلا المصريين أنفسهم، إياكم أن تتصوروا أن أحدا يستطيع مساعدتكم. توقف لحظة ثم أضاف: انظروا حولكم وادرسوا كيف حل آخرون مثل اليمن مشاكلهم. سألته عندئذ ماذا يتوقع فى القريب؟ فنظر لى ثم قال دون مواربة: اسمع مصر ستواجه محنة عصيبة فى العام المقبل، غاص قلبى فى صدرى وتساءلت: أكثر مما نحن فيه؟ فقال نعم، عندما تتوقف المساعدات العربية فى العام القادم ستواجهون أزمة اقتصادية طاحنة، وعليكم التحرك وترتيب أوضاعكم. شكرته وتحولت بعيدا، وفى حلقى غصة. كان السفير ينطق بهذه العبارات فى لندن ربما فى نفس الوقت كان الوزير الإماراتى ينطقها فى دبى.
•••
25 يناير كان مفترق طرق التقت عنده قوى عديدة: شعب تململ من الفقر والفساد والطغيان، وشباب أدارت المعجزة رأسه فلم يفهم أنه خطوة فى رحلة طويلة قطعتها أجيال عديدة ولم يعرف ما الذى يفعله بالنصر، وعصابات متأسلمة كانت تتحين الفرصة للانقضاض على وطن تصورته قاعدة انطلاق لأحلام وهمية، وعدو أمريكى كان يترقب الثورة، اتفق مع الإسلاميين ليسلمها لهم ويسلموه فى المقابل حاضر مصر ومستقبلها، وجيش وطنى فوجئت قيادته المسنة بالثورة، لم تفهم معناها وكانت أسيرة مقولات الماضى أن أوراق اللعب مع أمريكا فاستسلمت لتوجيهاتها بتمكين الإخوان.
لكن المارد المصرى هب مرة أخرى فى الثلاثين من يونيو يرفض العودة للقرون الوسطى ويستدعى جيشه لحماية الوطن المهدد فى الداخل والخارج. وتغير المشهد من ثورة ضد حاكم مستبد نادت بالحرية والعدالة الإجتماعية إلى حالة حرب فى مواجهة أعتى تنظيم إرهابى أفرزه العصر الحديث، وخرجت من تحت عباءته كل حركات التطرف الدينى المعاصرة.
وكان المفروض والبديهى أن ندرك أبعاد التغيير الذى حدث فنقف مع جيشنا الذى لبى النداء ومع قيادته التى أدركت معنى الثورة والتحمت بها فى مواجهة المؤامرة الدولية. لكن المتحزلقين فى نخبتنا عادوا لممارسة هواية الاختلاف وتأكيد الذوات المتهافتة على حساب الوطن، وبدأ مسلسل جديد من التساؤلات العبثية عن مشروعية فض الاعتصام بالقوة وعن العودة لحكم العسكر وترددت نداءات المصالحة مع عدو يرفع السلاح ضد الوطن والمشاركة مع طابور خامس يسانده. وتقعر البعض بالحديث عن الفاشية والديمقراطية فتولدت شكوك تفت العزائم وتتيح للمتأسلمين الفرصة لاستعادة تماسكهم ومواصلة الإرهاب فى الطرق والجامعات وأقسام الشرطة، مدعومين بالملايين القطرية والتركية والحرب النفسية التى تشنها علينا قناة الجزيرة استعدادا للانقضاض على قطار الانتخابات الذى نتصور أنه فى جيوبنا دون أن نستعد له. ولقد كان حريا بنا أن نصطف فى دعم السيسى كى يسقط المؤامرة الأمريكية ويطرد الطابور الخامس السلفى.
•••
إن أجنحة فى نخبتنا ترتكب خطيئة فى حق الوطن، تتوه فى التفاصيل وتتشبث بوجهات نظرها. وأعود إلى سوريا التى نجحت فى صد أعتى هجوم أمريكى إرهابى عليها، لم تتراجع بالشكوك، ووقف السوريون خلف قيادتهم لأنهم قدروا من هم الأعداء ولم يتوانوا عن دفع الثمن، فالحرية لا يمكن المساومة عليها، إنها موقف.. أن نكون أو لا نكون؟