أجلس فى التاكسى. الطريق طويلة والمطبات ترفع العربة المتهالكة وتهبدها فى جلبة واضحة. السيارة على وشك التحول لحفنة من قطع الغيار المجانية بعد كل «هُدْر». عداد التاكسى من النوع الحديث مضمونا والتراثى شكلا وموضوعا. عداد «ديجيتال». يشبه قالب شيكولاتة مستطيلا وإن كان أقصر وأكثر سمكا.
ينخلع العداد من مكانه كل دقيقة. يسقط معلقا فى الهواء بسلك رفيع يربطه كالحبل السرى بأحشاء السيارة. تمتد إليه يد السائق لتعيده إلى مكانه فى هدوء. لا يفقد تركيزه على وجهى أو حقيبتى، فيما لا تنال الطريق أكثر من التفاتة عابرة من حين لآخر.
ـ معلش يا بيه. أصله متسبت بلزاق. جبت له حته لزاق نضيفه من يومين. بس الهوا والتراب بيخليه يسيل.
يعنى إيه يسيل؟ فكرت قليلا دون أن أجرؤ على السؤال. قررت الاحتفاظ بهيئة العارف المحترم.
ـ تعرف ياسطى. أحسن حاجه تثبته بأستك.
ـ عفارم عليك يا بيه. كانت تايهة عن بالى. والله عندك حق.
تغرق السيارة فى صمت تهشمه ضربات الطريق إلى فتات صغيرة.
مددت يدى لأعبث بمحتويات حقيبتى. لمسته أصابعى. مرن ورخو.. «أستك».
ـ ابن حلال. شوف لقيت لك إيه؟! أستك.
ـ (بفرح حقيقى كما لو كان كسب ورقة يانصيب) معقول يا بيه؟! أستك؟!
ـ آه والله شوف!
ـ يا ما انت كريم يا رب. استك؟! الحمد الله.
وكأنما وجد ما يشغل فراغه أثناء القيادة بعد طول انتظار. مد يده وبدأت أصابعه محاولة لشد الأستك، وربط العداد باللوحة المعدنية المثبتة فى العربة. تحول تركيزه عنى، وعن حقيبتى، وعن الطريق إلى الأستك.. بشكل تام.
صمت وهلة ثم لم أتمكن من المقاومة.
ـ تصدق بالله.. أنا شفته النهارده بس.
ـ هو مين يا بيه؟
ـ الأستك..
ـ معقولة؟
ـ والنعمة زمبؤلك كده. أنا لا بتاع أساتك ولا لى فيهم. لكن لقيته فى وشى وأنا خارج. فى مكان عمر ما كان فيه أساتك قبل كده. مكان مش ممكن يتحط فيه أستك أساسا.
ـ لا إله إلا الله.
ـ حسيت كده زى ما يكون بيندهلى. مديت إيدى من غير ما افكر وحطيته فى الشنطة.
ـ يا قادر يا كريم.
ـ تعرف. حتى لما العداد وقع فى الأول ما فهمتش الإشارة. دى كانت إشارة! العداد فضل يقع علشان أفهم. الأستك ده نصيبك ومقسوم لك.
ـ والله عندك حق.
ـ الأستك ده كان جايلك.. كان مكتوب باسمك.
ـ تصدق بالله.. انت راجل مبروك.
ـ ياعم إنت اللى مبروك وربنا بيحبك.
ـ شوف ربك.. له تصاريف كده من غير حساب..
ـ ونعم بالله.. تصدق؟! أنا...
طراااخ... مطب تاريخى ومباغت، من النوع الذى يصعب التنبؤ به. قفزت حقيبتى فى الهواء موشكة على السقوط على أسفلت السيارة القذر. التقطتها. لمحت عيناى العداد وقد سقط وبدأ يتأرجح بعناد فى فضاء السيارة السفلى. التقت عيناى بعينى السائق.
ـ نزلنى هنا يا اسطى.
ـ مش كنت رايح مدينة نصر؟!
ـ هانزل هنا احسن.
ناولته الأجرة وأغلقت باب السيارة بقوة آملا أن ينغلق من محاولة واحدة.
خطوت مبتعدا قبل أن ألمح شبحه يطير من الشباك المفتوح فيما تعاود السيارة انطلاقها الأرعن. استقر بجوار حذائى. رخوا، مطاطيا، ومقطوعا. انحنيت والتقطته برفق، ودسته أصابعى فى مكانه من الحقيبة.. بهدوء.