كان أستاذنا الكبير الراحل أحمد بهاء الدين ــ رحمه الله ــ هو من أول من لفت الأنظار إلى أن المواجهة بين العرب وبين إسرائيل هى مواجهة حضارية شاملة.
جاء ذلك فى سلسلة مقالات أعقبت هزيمة يونيو 1967 طورها إلى كتاب بالغ الأهمية بعنوان «إسرائيليات وما بعد العدوان»، وقد صدر الكتاب عام 1968، أى منذ نصف قرن تقريبا.
ومن المدهش، بل من المحزن ــ للأسباب التى سنذكرها توا ــ أن كل العرب بلا استثناء وافقوا على رؤية الأستاذ بهاء.. فما الذى حققه العرب فى نصف القرن هذا لتجاوز أزمتهم الحضارية فى مواجهة إسرائيل؟! وما الذى فعلته إسرائيل نفسها للإبقاء على تفوقها الحضارى الكاسح على العرب؟
الإجابة على هذا السؤال هى فى ذات الوقت الرد المفحم على كل الأسئلة المثارة دائما فى العقل العربى عن أسباب إطراد الخسائر العربية مقابل اطراد المكاسب الإسرائيلية، وأحدثها اعتراف الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بالقدس عاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل، ذلك الاعتراف الذى جدد الأحزان والتساؤلات، ليس فقط عن الأسباب، ولكن عن النتائج أيضا ترقبا لما سوف تكون عليه صفقة القرن.
لا يحتاج الواقع العربى إلى أكثر من مجرد النظر العابر لإثبات أننا لم نتقدم كثيرا فى المضمار الحضارى، فى حين لا يحتاج الواقع الإسرائيلى سوى مجرد النظر العابر أيضا لتبين كم اتسعت الهوة الحضارية لمصلحتها على حساب كل جيرانها من الخليج إلى المحيط، فإذا استثنينا بعض معالم التقدم المادى، الذى كان لابد أن يتحقق بفعل التطور الطبيعى فى العالم كله، مثل المبانى والطرق الحديثة، وسائر المرافق والخدمات، ووسائل الاتصال، وارتفاع مستويات المعيشة نسبيا وغيرها، فإن جميع الدول العربية، ــ بلا أى استثناء ــ إما تجمدت أو تراجعت حضاريا، وعلى الأخص فى ميادين الفكر، والتعليم، والبحث العلمى، والنظم السياسية.
ولأن طبيعة ومساحة المقال الصحفى لا تتسع لتناول كل تلك الميادين، فسوف نركز على ميدان واحد هو النظم السياسية، باعتبار أن النظام السياسى فى أية دولة من الدول هو الصانع الأول للتقدم الحضارى، أو السبب الأول للفشل والتراجع الحضاريين، والنظام السياسى هنا يشمل مصدر شرعية السلطة، وعلاقة الحاكم بالمحكومين، ويشمل أيضا العملية المستمرة لبناء الدولة الوطنية، والحفاظ عليها، كما يشمل قيادة المجتمع إلى الاندماج فى قيم العصر السائدة فى هذه الحقبة من تاريخ التطور الانسانى.
مرة أخرى لسنا فى حاجة إلى تعداد أمثلة الفشل المزمن لنظم الحكم العربية فى أداء تلك المهام، فهى تتحدث عن نفسها ولا فخر، من حروب أهلية، إلى تخلف صناعى وتكنولوجى، ومن الاعتماد على ما ينتجه الآخرون إلى سفه الإنفاق الاستهلاكى فى كل حدب وصوب، ومن القمع البوليسى إلى الاحتكار السلطوى للاعلام، ومن ندرة المثقف المستقل، إلى اضطهاد الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدنى، ومن التزمت الدينى إلى التمييز الطائفى والإرهاب والعنف، وقبل كل ذلك وبعده تكريس مبدأ القوة مصدرا للشرعية، وترسيخ تقليد الحكم الفردى فوق النقد والمساءلة.
بمفهوم المخالفة كأحد الأدوات التحليلية تعالوا نستعرض أداء النظام السياسى الإسرائيلى، منذ تكونت أول مستوطنة صهيونية فى فلسطين، فقد كانت إرادة الناخبين هى المصدر الوحيد لشرعية السلطة، ولذلك نشأ نظام الحكم فى الدولة تعدديا، دون إقصاء لأى طيف، ومن ثم أصبح النظام بوتقة انصهار للخلافات الثقافية والدينية والسياسية والاقتصادية بين أقليات نازحة من كل بلاد الدنيا، التقت معا لأول مرة هناك، ولذا أيضا لم تعرف إسرائيل ظاهرة الانقلابات العسكرية المتوطنة فى المنطقة.
أكثر من ذلك فإن إسرائيل ــ التى تأسست، وعاشت وسط الحروب والمقاومة الفلسطينية المسلحة وغير المسلحة ــ لم تشهد طوال تاريخها إعلانا للأحكام العرفية، أو تطبيقا لقانون الطوارئ ولم تعرف محاكم استثنائية، ولا كبتا لحريات النشر والتظاهر والاجتماع بذريعة مواجهة أعداء الداخل والخارج، ومؤامراتهم التى لا تنقطع، كما لم تعرف تأجيل انتخابات أو تجميد برلمان بسبب هذه الحروب.
وبرغم الخلافات الحادة بين أحزابها وزعمائها فلم تمنح حكومة واحدة نفسها رخصة اضطهاد وتشويه أحزاب المعارضة أو تلفيق القضايا لزعمائها.
وعلى الرغم أيضا من وفرة الزعامات التاريخية هناك حتى بالمعايير العالمية، فإن أحدا من هؤلاء الزعماء لم يحظ بأقل القليل مما أحاط، ويحيط به الزعماء العرب الفاشلين أنفسهم من هالات التقديس، وامتيازات الإعفاء من النقد والمساءلة، بل ومن اعتقادهم أنهم فوق القانون، وفوق الدستور نفسه، فعندما ثبت أن ديفيد بن جوريون الأب المؤسس للدولة خالف القانون وأمر بتنفيذ عمليات إرهابية فى مصر من وراء ظهر وزير الدفاع أطاح به حزبه من زعامته، ومن رئاسة الحكومة، ولم يقل أحد إنه بن جوريون الذى فعل كذا وكذا، والذى أفنى عمره فى تحويل المستوطنات إلى دولة، وهزم سبعة جيوش عربية عام 1948، وأسس برنامج التسليح النووى، فكيف يعاقب على مثل هذه الهفوة؟! وكيف تخاطر إسرائيل بحرمانها من هذا القائد الملهم، مع أنه كان ملهما بحق؟ أما عندما اكتشف أن زوجة اسحاق رابين احتفظت بحساب فى بنك أمريكى كانت قد فتحته فى أثناء عمل زوجها سفيرا فى واشنطن، وكان الحساب لا يحتوى على أكثر من 13 ألف دولار، فى وقت كان القانون يمنع على المواطنين الإسرائيلين الاحتفاظ بحسابات شخصية فى الخارج، فقد أجبر رابين على الاستقالة من منصب رئيس الوزراء، وحوكمت زوجته وغرمت، دون أن يخطر ببال أحد أن يتساءل كيف نفعل ذلك ببطل انتصار عام 1967؟ ذلك الانتصار الذى يعد تأسيسا ثانيا لإسرائيل، أو فى الحقيقة تأسيسا لإسرائيل الكبرى، مع أن هذا الرجل كان أولى بكل المبالغات المصرية والعربية المقيتة والمألوفة من عينة بطل الضربة الجوية الأولى، أو بطل كل الضربات.. جوية وبرية وبحرية.. وشمالية وجنوبية وشرقية وغربية !!!!!!، أو من عينة صاحب الهمة وفخر الأمة، وهدية رب إسرائيل لشعب إسرائيل!!
بالطبع يذكرنا ذلك بسجن إيهود أولمرت فى قضية رشوة، وهو رئيس وزراء سابق، وصاحب الباع الطويل فى تهويد القدس عندما كان عمدة لها.
خذوا مفارقة مبكية أخرى، وليست أخيرة: كل قادة الجيش الإسرائيلى كانوا يتركون مواقعهم بعد انقضاء المدة القانونية، حتى إذا كانوا خارجين لتوهم من معارك منتصرة، طبق ذلك على موشى ديان بعد حرب 1956، وعلى اسحاق رابين بعد حرب 1967، وعلى ارييل شارون قائد الثغرة فى حرب 1973، أما القائد المصرى المهزوم عبدالحكيم عامر فقد بقى فى منصبه، حتى تطوع بالاستقالة مع تنحى رئيسه فى عام 1967، ثم حاول العودة بالقوة عندما بقى أو أبقى جمال عبدالناصر فى منصبه، أكثر من ذلك فعلى حين ذهب ديان بعد تقاعده إلى فيتنام ليدرس أساليب مواجهة حرب العصابات كان مارشالنا ورجاله مشغولين بالزواج من «الفنانات».
كل ذلك لأن أمن النظام كان يقتضى بقاء عامر على رأس الجيش، بما أن القوة (وليس إرادة الناخبين) هى مصدر الشرعية. ولم يكن الحال فى بقية الدول العربية أفضل، بل كان أسوأ كثيرا من مصر، فالرئيس العراقى صدام حسين دأب على التخلص بالاغتيال من كل جنرال تذيع شهرته حتى فى أثناء الحرب مع إيران، فعل ذلك فى ماهر عبدالرشيد، وعدنان خير الله، مع أن الأخير كان ابن خاله وشقيق زوجته، وقس على ذلك القذافى، وحكام اليمن شمالا وجنوبا، بل إن النظم الملكية ليست استثناء، وإن كانت أقل دموية، بحكم القرابة العائلية، كما حدث فى السعودية أخيرا.
لا يعد ما ذكرناه حصرا شاملا للمفارقات بين إسرائيل وبين الدول العربية، والتى تشكل فى جوهرها أسباب تفوق النظام السياسى الإسرائيلى على النظم السياسية العربية، فهناك أيضا مفارقة محزنة كذلك بين متطرفيهم الدينيين وبين متطرفينا، فالمتطرفون الإسرائيليون ــ وما أكثرهم ــ يلتزمون بالدستور والقانون والانتخابات، أما متطرفونا فلا يعرفون سوى الحديد والنار والدماء والاشلاء، بما فى ذلك أشلاء الركع السجود فى بيوت الله.
****************************
عندما كتب الأستاذ بهاء ينبهنا إلى الطبيعة الحضارية للصراع العربى الإسرائيلى، فإنه كان يقصد أن يسعى العرب حكاما ومحكومين ما وسعهم الجهد للقضاء على اسباب تخلفهم، وفى مقدمتها نظمهم الحاكمة الكاسدة والفاشلة، ولكن ما جرى كان هو العكس تماما، فقلبنا الآية، وقاومنا كل محاولات التقدم، وارتد الكثيرون منا إلى أشرس الأفكار رجعية، وازداد حكامنا كفرا بالديمقراطية كضمانة أكيدة ووحيدة للحكم الرشيد، الذى يقود الأمم للتقدم، وكمثال حديث فها هو برلمان مصر يشرع حجب المحاكمات عن الرأى العام، كما شرع منذ أيام لتعجيز الحركة النقابية العمالية، باشتراط توظيف 150 عاملا فى المنشأة ليكون من حقهم تكوين لجنة نقابية، فيعود بنا إلى القرن 19، أو كما شرع من قبل لتكبيل المنظمات والجمعيات الأهلية.