دق جرس الفسحة فقامت محاسن من مكانها لتنزوى فى ركن من أركان الفصل. غادر التلاميذ المكان وبقيت هى. كانت تتلكأ كى لا يلحظها أحد. تحركت ببطء إلى آخر «دكة» فى نهاية الصف وهى تعض شفتها السفلى بين الحين والآخر، حتى يصرف الألم دموعها عن النزول.
تلكأت فى القيام من مكانى وتعمدت أن أكون آخر الخارجين لأتابعها. لم أقترب منها لكننى كنت أشعر بألمها. وضعت محاسن ذراعيها على الدرج وصنعت منهما مربعا مالت لتخفى رأسها فيه وتجش ببكاء صامت.
لم أتحدث معها، فمحاسن لم تكن صديقتى، كما لم تكن صديقة لأحد. كانت المعلمة تعاملها بقسوة منذ اليوم الأول وتضربها لأسباب مختلفة: للتردد فى الإجابة عن الأسئلة، لعدم كتابة الواجب، بسبب بقع الزيت التى تظهر على أغلفة كراستها، لعدم تجليدها للكتب بالجلاد البنى، أو لعدم لصق التيكيت الأزرق الكبير على منتصف صفحة الغلاف.
أدركنا جميعا منذ بداية الفصل الدراسى أن محاسن ليست الرفيق المناسب. ليس فقط لغبائها أو إهمالها، ولكن لأنها أيضا.. فقيرة، ترتدى مريلة خاطتها أمها بعدم إتقان وتحمل حقيبة من القماش عوضا عن الحقيبة الجلدية التى يحملها أغلب التلاميذ، أما المشكلة الأكبر التى كشفت عنها المعلمة فى وصلة عقاب ما قبل الفسحة، فهى أن محاسن.. أبوها «صرماتى».
لم تكن هذه المرة الأولى التى تصب المعلمة جام غضبها على محاسن، ولكنها كانت أول مرة تكشف لنا فيها هذا السر وهى تسبها «يا بنت الصرماتى». لم أفهم فى البداية، وفى المنزل سألت أمى فأجابت: «الصرمة يعنى الجزمة (الحذاء). والصرماتى اللى هو الجزمجى، يعنى الرجل اللى بيصلح الجزم بس ما تقولش الكلمة دى عشان عيب، قول الجزمجى».
استحال الموضوع فى ذهنى لغزا، وتفرعت من الإجابة أسئلة عديدة: إذا كان أبومحاسن صرماتيا فما ذنب محاسن؟ وما هى المشكلة فى أن يعمل الرجل فى إصلاح الأحذية؟ ولماذا يسمحون لأحد أن يعمل «صرماتيا» إذا كانت المهنة مشينة إلى هذا الحد؟
صاحبتنى الأسئلة منذ سالت دموع محاسن على أكمام مريلتها. وأدركت بمرور الزمن أن أباها ليس وحده. فإلى جوار محاسن بنت الصرماتى، هناك «ابن الزبال»، و«ابن العربجى» وغيرهما.
وعندما بدأت السفر والترحال خارج مصر، كنت أبحث فى كل مجتمع عن شتائمه وإهاناته. وباستثناء «ابن العاهرة» التى تكاد تكون قاسما مشتركا فى قاموس شتائم الشعوب، لم أعثر على لغة تستخدم المهنة فى الإهانة. تتفق الثقافات واللغات كثيرا على ربط الشتائم بالجنس أو بالمرأة، وربما يكون لهذا حديث آخر، أما أن تشتق المسبات من مهن شريفة لا غبار عليها فأمر له دلالات عدة ربما يكون أهمها هو عدم احترام العمل كقيمة.
فالعمل فى عرفنا لا يعنى استجابة لحاجات المجتمع وخدمة لأفراده. وإنما هو نشاط قصد به الحصول على المال والمكانة الاجتماعية، وكلما زاد المال الذى يدره العمل على صاحبه، زاد تقدير المجتمع.
تعليمنا لا يشجع على احترام العمل وتقديره، ومجتمعنا يقدر للعمل ما يدره علينا أو على غيرنا من مال. نحن بالتبعية لا نحتقر مهنة بعينها، وإنما نحتقر قلة المال الذى تدره.
ببساطة، ولندع العمل جانبا، نحن نحترم الأغنياء، ونحتقر الفقر والفقراء. ولهذا نحتقر محاسن، ونحتقر أباها.. الصرماتى.