هل يوجد درس يمكن لصناع وكتاب السياسة العرب الإفادة منه فى اعتذار تونى بلير رئيس وزراء بريطانيا الأسبق عن قرار مشاركة الولايات المتحدة فى غزو العراق؟
لقد اعترف بلير بخطأ أو كذب المعلومات الاستخبارية التى تثبت امتلاك العراق أسلحة دمار شامل تهدد الاقليم والعالم، ولا جديد فى هذا لأن كثيرين فى أنحاء العالم كانوا يؤكدون كذب هذه الادعاءات، وفى مقدمتهم الوكالة الدولية للطاقة النووية، كذلك فإن كثيرين ممن شاركوا فى جريمة الغزو اعترفوا بذلك، وكان أولهم كولين باول وزير الخارجية الأمريكية فى تلك الحقبة، كما لا يوجد جديد فى إقرار الرجل بمأساوية نتائج هذا الغزو، سواء على صعيد الداخل العراقى من إزهاق لأرواح عشرات الألوف من البشر، وتدمير بنية الدولة والمجتمع والاقتصاد، وهيمنة المعايير الطائفية على الحياة السياسية، أو على الصعيدين الاقليمى والدولى، لا سيما تقديم العراق وسائر المشرق العربى، ثم اليمن فريسة سهلة للنفوذ الإيرانى.
لا يوجد جديد هنا كذلك، ليس فقط لكون النتائج المأساوية تتحدث عن نفسها، ولكن أيضا لأن هذه النتائج كانت متوقعة مسبقا بأعلى درجة من اليقين، وحذر كثيرون من الساسة والخبراء الغربيين منها قبل الغزو، وفى صدارتهم – كما نعلم – جيرهارد شرودر مستشار ألمانيا، والرئيس الفرنسى جاك شيراك، بل إن يوشكا فيشر وزير الخارجية الألمانية فى ذلك الوقت وجه هذا التحذير علنا إلى دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكى فى مناظرته معه فى مؤتمر الأمن الدولى بميونخ فى فبراير عام 2003.. قائلا: إن أحدا لن يكسب من هذا الغزو سوى إيران.
قبل أن نجيب عن السؤال الذى بدأنا به هذه السطور، يجدر التنويه بأن الكاتب ليس لديه أى قدر من التعاطف مع الرئيس العراقى الراحل صدام حسين ونظامه والنظم المثيلة لنظامه، وأنه يعتبر غزوه للكويت واحدة من النكبات الكبرى للعرب وللاقليم، مثلها فى ذلك مثل نكبة فلسطين عام 1948، ونكبة الهزيمة فى عام 1967، إلا أن ذلك شىء، وتطوع بعض صناع السياسة العرب، وبعض صناع الرأى العام عندنا لتبنى الخطط الأمريكية، ومعها الخطط البريطانية والاسرائيلية للإقليم بالكامل شىء آخر، خصوصا وأن أغلبها يرسم فى الظلام، تحت مسميات مضللة، وبذرائع أكثرها مفتعل، أو مبالغ فيه.
ولابد أن القراء الذين عايشوا تلك الأحداث يتذكرون كيف أقيمت القواعد للقوات الغازية فى دول عربية قريبة من العراق، وكيف انبرى معلقون وخبراء استراتيجيون وكتاب يباركون خطط الغزو، باعتبارها مقدمة لنشر الديمقراطية، أو تخليصا للشعب العراقى والمنطقة من شرور الرئيس العراقى، إلى حد أن بعضهم أطلق وصف «أرامل صدام» على الفريق الذى ظل على رفضه للغزو، ومحذرا من الكوارث بعيدة المدى، التى ستترتب عليه، وأتذكر أننى رددت على هؤلاء وقتها قائلا: إنه إذا كان معارضو الغزو أرامل لصدام، فإن المبتهجين به من العرب يناسبهم وصف «محظيات رامسفيلد».
لكن المأساة التى يشير إليها اعتذار تونى بلير تبقى أعمق من مباركة كتاب أو خبراء عرب لغزو العراق، إذ كان هناك صناع قرار عرب أيضا شاركوا فى العملية منذ بداية التفكير فيها، بل وربما كانوا هم الموحون بها، ففى أعقاب حرب تحرير الكويت نشر تقرير عن محادثة بين دبلوماسى خليجى كبير، وبين مسئول نافذ فى إدارة الرئيس الأمريكى بوش الأب يقول فيها هذا الدبلوماسى إن الغزو العراقى للكويت أنهى قيادة النظم القومية للمنطقة العربية، تلك القيادة التى تلقت هزيمتها الأولى فى حرب 1967، وأنه آن الأوان لكى يجلس الخليجيون إلى جانب الأمريكيين على مقعد أو مقاعد القيادة، وأن ذلك قد يتطلب إسقاط نظام صدام حسين بالكامل، ومن المعلوم أن بوش الأب رفض تلك النصيحة فى حينه، ولم يطور حرب الكويت إلى غزو للعراق، لأنه وفريقه للأمن القومى كانوا أكثر حنكة من أن يتطوعوا بإفراغ الساحة للتفوق الإيرانى، حتى جاء بوش الابن ليعمل بتلك النصيحة المشئومة.
المغزى الباقى من هذا التقرير أن صناع سياسة عرب شاركوا– بقصر نظر – فى تغيير موازين القوى فى المنطقة لمصلحة إيران، وضد مصالحهم، وهم الآن الأكثر تضررا من هذا التغيير، الذى جاء بالنفوذ الإيرانى المهيمن إلى أربع دول عربية، هى سوريا ولبنان واليمن بالاضافة إلى العراق، وهنا يبرز الدرس الواجب استخلاصه من اعتذار تونى بلير، عن النتائج العكسية لغزو العراق، ولا يكفى أن يكون الدرس هنا هو اعتذار مماثل من أمراء الظلام العرب من صناع سياسة وصناع رأى عام، ممن كانوا يعلمون بكذب الادعاءات بامتلاك العراق لأسلحة دمار شامل، وشاركوا فى الغزو، وفى تبريره، ولكن الدرس الأوجب هو عدم الوقوع فى الخطأ نفسه مرة ثانية، وثالثة.
ما نقصده هنا تحديدا هو الاندماج فى السياسة الأمريكية والاسرائيلية فى المنطقة بالكامل، بما فى ذلك ما يسمى بالتحالف السنى ضد إيران، مشتملا على اسرائيل دون قيد أو شرط، والحديث عن محور للشر يضم إلى جانب إيران التنظيمات المتطرفة وتركيا، فى مقابل محور للخير يضم اسرائيل بالضرورة، ويؤدى – بالضرورة أيضا بحرب أو دون حرب – إلى تغيير دراماتيكى فى موازين القوى لمصلحة الدولة العبرية وحدها، دون منافس فى الاقليم، وبتأييد وتنظير الخبراء والدبلوماسيين الذين سبق لهم ولأمثالهم التبشير بجوائزغزو العراق.
ليس معنى ذلك الاستسلام للسلوك الإيرانى العدوانى فى الخليج، وشبه الجزيرة العربية، والعراق وسائر المشرق، كما لا يعنى ذلك قبول السلوك التركى العدوانى أيضا، ولكنه يعنى البحث عن استراتيجية عربية خالصة للمواجهة، وربما يكون من المفيد هنا التذكير بأنه جاء على السعودية ودول الخليج وإيران حين من الدهر شهد درجات متقدمة من التفاهم والزيارات المتبادلة، ليس فقط عندما كان هاشمى رافسنجانى المعتدل رئيسا فى طهران، ولكن أيضا فى أثناء رئاسة أحمدى نجاد المتشدد، والذى كان ضيفا على إحدى دورات قمة مجلس التعاون الخليجى، كما جاء حين قريب العهد من الدهر كانت العلاقات السعودية التركية على أوثق ما تكون العلاقات بين دولتين.
مرة أخرى.. ليست العواصم الخليجية وحدها هى المسئولة عن تدهور العلاقات مع طهران وأنقرة، ولكن المسئولية مشتركة بين جميع الأطراف، ولذا فالتفاهم هو أيضا مسئولية الجميع ولا جدال فى أن أقصر طريق للوصول إلى هذا التفاهم هو أن تأخذ هذه العواصم كلها أوراق اللعبة الاقليمية فى أيديها، وتتفق على مبادرات للتسوية السياسية الداخلية فى اليمن أولا حيث لا يزال تدخل القوى الكبرى الأجنبية محدودا للغاية، فإذا أمكن بناء الثقة فى اليمن، سوف يسهل تكرار الانجاز فى العراق، ولبنان، مما سينعكس إيجابيا على الأزمة السورية، مرورا بالطبع بالأزمة القطرية التى خلقت تناقضا لا مبرر له، دفع دولة خليجية أكثر وأكثر نحو إيران، وجاء بالقوات التركية إلى منطقة الخليج لتخلق بدورها تناقضا لا مبرر له كذلك بين الخليجيين والأتراك، وفى وقت كانت تركيا نفسها مرشحة للتضامن مع الدول الخليجية فى مواجهة تمدد إيران.
مثل هذه المبادرة أو المبادرات تحفظ المصالح الخليجية على وجه الخصوص، والعربية على وجه العموم، وتبقيها متمايزة عن مصالح إسرائيل، كما تبعدها عن المشاركة فى الخطط الاسرائيلية لتفريغ المنطقة من أية منافسات محتملة، بما قد يكرر النتائج المأساوية لغزو العراق.. تلك التى اعتذر عنها تونى بلير.. والذى يعد الآن أحد المستشارين الكبار المفضلين لكثير من المسئولين العرب.
هذا التحذير من الاندماج فى الخطط الأمريكية والاسرائيلية، أو التعويل عليها لإزالة الخطر الإيرانى أو التركى لتصبح اسرائيل فوق الجميع ليس مبعثه فقط الاعتبارات القومية والأخلاقية، ولكن مبعثه أيضا ــ وهذا هو الأهم – الاعتبارات الجيبوليتيكية الصرفة.